الفتى يوسف: المهد سجنٌ.. واللحد شهادة

  

28/7/2025

يوسف محمد الزق، هو فتى أنجبته أمه وهي مقيَدة بالأصفاد بين جدران سجن إسرائيلي، فوُلد أسيراً، وأطلق صيحاته الأولى مكبَلاً، وأبصر النور في زنزانة معتمة وضيقة المساحة، وسُجل مولده في شهادة ميلاده أنه في سجن هشارون الإسرائيلي، فكانت الصورة الأولى التي حُفرت في ذاكرته ووجدانه هي لسجان متوحش بصورة إنسان، فأضحى شاهداً على الجريمة.

وعاش الفتى طفولة استثنائية وغير طبيعية في كنف الحياة الاعتقالية، فعانى جرّاء وجع السجن في المهد من دون أن يعي معنى الحياة بين جدرانه أو أن يدرك مكان وجوده.

ومع ولادته، لم تراعِ إدارة السجن بداياته، ولم توفر له مكاناً ملائماً وعناية صحية أو غذاءً مناسباً، كما رفضت إدخال بعض من حاجاته الضرورية عبر الأهل أو المؤسسات، بما فيها الملابس والألعاب وسرير النوم. ولم يكن يوسف في منأى عن سوء المعاملة وآثار الإجراءات اليومية والاقتحامات المفاجئة ورشّ الغاز وتبعات ذلك، فذاق قسطاً مما عانت جرّاءه أمه ورفيقاتها، وفي مرات عديدة جعل السجَّان من الطفل ذريعة لمعاقبة الأسيرات داخل الغرفة، وذلك بتهمة "الإزعاج" في إثر بكاء شديد أو صراخ متواصل سببه جوع الرضيع أو ألم كامن داخله. 

عودة إلى أصل الحكاية..

تعود أصل الحكاية إلى 20 آيار/مايو 2007، حين اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي والدته فاطمة الزق، تاركة ورائها ثمانية أبناء، في أثناء مرورها عبر معبر بيت حانون، المسمى إسرائيلياً إيرز، شمالي قطاع غزة، وهو المنفذ الوحيد أمام سكان غزة للمرور إلى المناطق المحتلة سنة 1948 أو إلى القدس والضفة الغربية. وكانت فاطمة مرافقة لابنة أختها المريضة روضة حبيب، التي أُعتقلت معها أيضاً وهي أم لأربعة أبناء، وكانت في حاجة إلى إجراء عملية جراحية في أحد المستشفيات الإسرائيلية بتغطية مالية من وزارة الصحة الفلسطينية، بعد أن حصلتا على موافقة إسرائيلية مسبقة للمرور عبر المنفذ المذكور.

اعتُقلت فاطمة، وكنيتها أم محمود، ولم تكن على معرفة بأنها حامل في شهرها الثاني، وقُيدت يداها بالأصفاد وعُصبت عيناها، قبل أن تُنقل إلى سجن عسقلان، وهناك زُج بها داخل زنزانة، ضيقة ومعتمة ومتسخة. وبينما دلل الفحص الطبي الذي أُجري لها في الأيام الأولى على ثبوت حملها، زادت شدة التعذيب عليها من دون اكتراث بما تحمله بين أحشائها، وما يمكن أن يلحق بالجنين من ضرر وأذى، وتكررت محاولاتهم مراراً لإسقاط جنينها، لكن شاء القدر أن ينجو الجنين من بطشهم ويبقى يتنفس وينمو.

لقد أُخضعت الأم الحامل لتحقيق قاسٍ، وواجهت صنوفاً متعددة من التعذيب الجسدي والنفسي، بينما لم ينتهِ العذاب مع انتهاء فترة التحقيق، والتي استمرت لنحو 21 يوماً، ولم تتحسن معاملة السجان/ة لها بعد نقلها إلى سجن هشارون المخصَص للنساء، حيث قسوة المعاملة وسوء التغذية وصعوبة أوضاع الاحتجاز ورداءة التهوية وتدنّي الرعاية الصحية وغيرها. 

الولادة..

حين اشتد المخاض ودخلت فاطمة مرحلة متقدمة من الولادة، تم نقلها إلى مستشفى مائير، ووُضعت في غرفة صغيرة، مقيَدة اليدين والقدمين بالسلاسل، وجزء من أطرافها مقيَد بالسرير، وسط حراسة أمنية مشددة من دون أن يُسمح لزوجها أو أي من أفراد عائلتها الدخول لمساندتها في أثناء المخاض، أو للاطمئنان عليها والتواجد إلى جانبها بعد الولادة، وهو ما زاد من خوفها وقلقها، مستحضِرة ما حدث من قبل مع مثيلاتها.

وفي لحظة دخولها غرفة العمليات فقط، فُكت القيود عنها، وبعد الولادة بساعتين فقط، أعادوا القيود ثانية، وعادت معها السجانة لتقف فوق رأسها، تنهرها وتكيل لها الشتائم، بدلاً من أن تكون هناك أمّ أو أخت أو إحدى قريباتها إلى جانبها تساندها وتخفف عنها.

وضعت أم محمود مولودها التاسع، في 17 كانون الثاني/يناير 2008، وسمّته يوسف، تيمُناً بسيدنا يوسف عليه السلام الذي عاش في السجن، رافضة طلب إدارة السجن أن تطلق عليه اسم مدير السجن نبيل، بحسب ما روت لي في وقت سابق حين التقيتُها، وقد التقيتُها أكثر من مرة، واستمعت إلى قصتها مراراً. 

ما لا يقل عن 12 أسيرة أنجبن في الأَسْر

فاطمة الزق ليست المرأة الأولى التي تُعتقل وهي حامل، إذ سبقها ولحق بها كثير من النساء الفلسطينيات، أغلبهن كانت فترة اعتقالهن قصيرة، فأُطلق سراحهن قبل أن يحين موعد الولادة، بينما ما زالت 3 أمهات حوامل، من مجموع 50 أسيرة، يقبعن في سجون الاحتلال الإسرائيلي اليوم. كما لم تكن هي الأسيرة الوحيدة التي طالت فترة اعتقالها وأُجبرت على الولادة والإنجاب داخل السجن الإسرائيلي، فالذاكرة تحفظ أسماء ما لا يقل عن اثنتي عشرة أسيرة فلسطينية أنجبن في الأَسْر، في أوضاع متشابهة، على مدار فترة الاحتلال الإسرائيلي، وسبق أن وُثّقت مجموعة منها، فكانت الأسيرة زكية شموط، من مدينة حيفا، والتي اعتُقلت سنة 1971، وهي حامل في شهرها السادس، أول أسيرة فلسطينية تُنجب داخل السجن الإسرائيلي. 

للحرّية مذاق آخر...

في 1 تشرين أول/أكتوبر 2009، كان موعد الطفل مع الحرية، بعد إمضاء أول 21 شهراً من عمره وراء القضبان ووسط الأسيرات اللواتي شكّلت كل واحدة منهن أمّاً له، وعندما غادرهن مُحرَرَاً، بكى حُزناً على فراقهن، بينما أمضت أمه 28 شهراً موقوفة من دون حكم، وتحررت في إطار ما عُرف بصفقة شريط الفيديو الخاص بالجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي كان في حينها أسيراً لدى الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، حين أُفرِج عن 20 أسيرة فلسطينية آنذاك.

لم تخرج أم محمود من السجن وحدها كما دخلت، إنما خرجت وفي حضنها طفل يحمل لقب أصغر أسير محرَر في العالم، فكانت المرة الأولى التي يَراهُ فيها أبوه وإخوته الذين لم يُسمح لهم بالزيارة طوال فترة الاعتقال.

تحرَر يوسف وخرج من السجن، بينما السجن ومعالمه بقيا في مخيلته، وبات يفضّل إغلاق الأبواب، ويميل إلى اقتناء الأقفال والسلاسل. وبالتدريج، بدأ يتكيف مع المحيط الاجتماعي ويندمج في المجتمع الجديد من دون أن تُمحى من ذاكرته تلك الصور.

ومخطئ من يعتقد أن مرور الأعوام يُمكن أن يمحو صوراً قاسية طُبعت في ذهن طفل تعرض لحادث يفوق قدرته على التحمل، وما يُصطلح على تسميته بالصدمة، والصدمات النفسية في الصغر لا تُمحى. 

زيارة الجزائر..

بعد عام ونيف، سافر يوسف ووالدَيه بصحبتنا إلى الجزائر للمشاركة في الملتقى العربي الدولي لنصرة الأسرى، برعاية الرئيس الجزائري، فنَالَ ووالدته ترحيباً كبيراً، محفوفاً بالحب والتقدير، وحين اعتلى مع والدَيه المنصة داخل قاعة الصنوبر، وهي القاعة نفسها التي أعلن فيها الرئيس الراحل ياسر عرفات إعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني سنة 1988، حظي بتصفيق حار وهتافات شديدة، وكان حضوره وكلمات أمه من أكثر رسائل المؤتمر قوة وتأثيراً، وقد كنتُ هناك شاهداً على الحدث. 

النشأة والانتماء..

ينتمي الفتى يوسف إلى أسرة مكونة من 11 فرداً، تنحدر من قطاع غزة، وتربّى في كنفها، ونشأ وسط عائلة مناضلة عُرفت بأصالتها وانتمائها الوطني، وقدّمت من أبنائها العديد من الشهداء والجرحى، وكان لها نصيب وافر من الاعتقال، والقائمة هنا تطول، فهي لم تقتصر على يوسف وأمه، ولا تتوقف عند أبيه الذي سبق أن ذاق مرارة الاعتقال أيضاً لأكثر من مرة، فجده أبو عبدالله - رحمة الله عليه - وأعمامه الخمسة هم الآخَرون تعرضوا للاعتقال، ومنهم مَن اعتُقل أكثر من مرة، وبينهم محمود (أبو الوليد)، وعبد الله (أبو سليمان)، وقد كانا من الرعيل الأول، وتحررا ضمن صفقة التبادل الشهيرة سنة 1985 بعد أن أمضيا أعواماً طويلة في الأَسْر.

وفي فترة ما من انتفاضة الحجارة سنة 1988، قدِّر لهم - الأب والجد والأعمام - أن يكونوا جميعاً في السجون، بينما كان محمود يعاني جرّاء قهر الإبعاد منذ أن تحرر سنة 1985، قبل أن يعود إلى غزة في أواسط تسعينيات القرن الماضي، وغيرهم كثيرون من أفراد العائلة الذين حفروا أسماءهم على جدران الزنازين.

كبُر يوسف وترعرع بين أزقة حي الشجاعية وشوارعه، وتعلّم في مدارس الحي، وكان مهتماً بدراسته، ويسعى لتحقيق النجاح والتفوق في مراحلها المتعددة كي يتمكن من اجتياز الثانوية العامة والوصول إلى الجامعة، ومن ثم تحقيق أحلامه وطموحاته الكبيرة.

واتسم الفتى بالهدوء وحسن الخلق، وقد أحب مَن حوله، وأنشأ دائرة واسعة من الأصدقاء، فأحبه الجميع، وعلى الجانب الآخَر بقي ملتصقاً بقضية الأسرى والأسيرات، وجاء مراراً مع والدته إلى الاعتصام الأسبوعي التضامني أمام مقر الصليب الأحمر في غزة. كما رأيته مشاركاً في العديد من الفعاليات الأُخرى ذات الصلة بالقضية. أمّا والدته المُحرَرَة، فهي دائمة الحضور، ونادراً ما تتغيب عن الاعتصامات والفعاليات المساندة للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي. 

موعدٌ مع الشهادة..

منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 تشرين أول/أكتوبر 2023، عاش الفتى حياة لم يعتدها من قبل؛ فعانى، كالآخرين، جرّاء الخوف والرعب، والجوع والعطش، والقصف والقتل، وخاض تجربة النزوح مع أُسْرَتِهِ مرات عديدة هرباً من الموت من خيمة إلى أُخرى، ومن مكان إلى آخر، بحثاً عن أمان مفقود في مساحة جغرافية صغيرة، فلم يجده، ولن ينعم به أحد ما دام الاحتلال جاثماً هُنا في بلدي، وطالما حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة مستمرة.

وفي فجر السبت 12 تموز/يوليو الجاري، وبينما هو نائم، كان حينها موعد يوسف مع الشهادة في إثر قصف بطائرة مسيّرة إسرائيلية استهدف شقة نزحت إليها عائلته في شارع الثورة وسط مدينة غزة.

لم يكتفِ الاحتلال بميلاد الفتى في زنزانة، أو بأنه عاش مُحَرَراً مُحاصَراً ومُكبَلاً بذكريات السجن، إنما عاد إليه السجان الإسرائيلي، حين بلغ السابعة عشر من عمره، وجاءه هذه المرة بزي مختلف، فأرداه قتيلاً، ليرتقي يوسف الزق شهيداً، وينضم إلى ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، فكان وداع الأم لجثمان نجلها الشهيد ليس كأي وداع، بعد أن تشاركا سوياً قسوة الاعتقال ومرارة السجن وفرحة الحرية، قبل أن يطوي الاحتلال حياة الشاب ويُذيق الأم لوعة الفقد.