مَن يوقف التعذيب ويساند ضحاياه الفلسطينيين جرّاء الاعتقالات الإسرائيلية؟

  

مَن يوقف التعذيب ويساند ضحاياه الفلسطينيين جرّاء الاعتقالات الإسرائيلية؟

 

عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.

9/7/2025

 

أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 12 كانون أول/ديسمبر1997، يومَ 26 حزيران/يونيو مِن كل عام يوماً عالمياً لمناهضة التعذيب ومساندة ضحاياه وتأهيلهم، وهو التاريخ نفسه الذي دخلت فيه اتفاقية مناهضة التعذيب حيز التنفيذ سنة 1987.

وفي الوقت الذي تحيي فيه الأمم المتحدة هذه المناسبة، فإن ممارسة التعذيب بِشِقَّيْهِ، الجسدي والنفسي، بحق الأسرى والمعتقَلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ما زالت تشكّل سلوكاً دائماً، ونهجاً أساسياً، وممارسة مؤسسية ممنهجة ومدروسة، حتى أضحت جزءاً لا يتجزأ من معاملتهم اليومية في إطار سياسة رسمية، يؤدي جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" الدور الأبرز فيها، ويُشاركه كل مَن يعمل في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ويَنضم إليهم أحياناً، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الأطباء والممرضون وغيرهم من العاملين في وزارة الصحة، وهو ما يجعل من أهمية الفهم الشامل للتعذيب وآثاره جرّاء الاعتقال، ومساندة ضحاياه من الفلسطينيين، ضرورةً ملحة. 

التعذيب الإسرائيلي يتطور ويتسع ويعمق الجرح...

بدأ التعذيب في السجون الإسرائيلية مع بدايات الاحتلال وتطور بالتدريج، وتنوعت أساليبه وأشكاله الجسدية والنفسية، ومُورس بغطاء علني من المستويَين السياسي والقضائي، وأفاد الأسرى الفلسطينيون أن إدارة السجون الإسرائيلية استحدثت، خلال العقود الثلاثة التي سبقت حرب الإبادة على قطاع غزة، إلى جانب أصناف التعذيب المتعارَف عليها، أساليب جديدة ومجموعة من الإجراءات التي أدت إلى ترسيخ الجريمة في تفاصيل الحياة اليومية للأسرى، سواء في أثناء التحقيق، أو بعده، فبات التعذيب أكثر ضرراً وإيذاءً للصحة النفسية والجسدية، وأصبح هناك جزء من التعذيب مخفياً، كما يقول الأسير الشهيد وليد دقة في كتابه "صهر الوعي": "أصبح القمع والتعذيب في سجون الاحتلال مركباً وحدثوياً يتماشى مع خطاب حقوق الإنسان، مخفياً ومتوارياً يسهل على سلطات الاحتلال تعتيمه وتضليله، إنه قمع لا صورة له ولا يمكن تحديده بمشهد، إنه مجموعة من الإجراءات الصغيرة والمنفردة وآلاف التفاصيل التي لا يمكن أن تدل منفردة على أنها أدوات للتعذيب".

 تعذيب غير مسبوق خلال حرب الإبادة

في الوقت الذي صعَّدت فيه قوات الاحتلال من جرائم التعذيب بحق المعتقَلين الفلسطينيين منذ اندلاع الحرب، ومارست التعذيب الجسدي المفضي إلى الموت، والتعذيب النفسي الشديد القسوة، بصورة غير مسبوقة أو معهودة بهذا القدر من الفظاعة والوحشية، استشهد 73 معتقلاً فلسطينياً منذ بدء حرب الإبادة، وهؤلاء هم فقط من أُعْلِنُوا وعُرفت أسماؤهم، بينما تُشير التقديرات إلى استشهاد آخرين لم تعلَن أسماؤهم، ولم تُكشف هوياتهم وأوضاع استشهادهم بعد.

واستناداً إلى ما ينقله المحامون بعد زيارتهم المعتقَلين في السجون الإسرائيلية، وما تنشره المؤسسات الحقوقية من تقارير وقصص مفزعة، وما تبثه المرئيات ويرويه المعتقَلون المفرَج عنهم من روايات صادمة، فقد بات من الصعب حصر جرائم التعذيب أو الإحاطة بجميعها، وذلك بسبب كثافتها واتساع نطاقها وارتفاع عددها، بدءاً من الاعتداء الجسدي والضرب بأعقاب البنادق وخلع الأظافر والتحقيق العسكري الميداني العنيف، ولا سيما معتقَلي غزة، والتعامل معهم وفقاً لقانون "مقاتلون غير شرعيين"، والإخفاء القسري، واستخدام المعتقَلين دروعاً بشرية، مروراً بالتجويع والتعطيش والحرمان من النوم والعلاج وقضاء الحاجة لمدد طويلة، وإبقائهم لساعات طويلة تحت المطر شتاءً أو تحت الشمس الحارقة صيفاً وهم عراة أو شبه عراة، وإطلاق الكلاب لتنهش أجسادهم، والتحرش الجنسي والاغتصاب العنيف، وتهديدهم باعتقال أفراد أُسَرِهِمْ واغتصابهم أو قصفهم وقتلهم، وليس انتهاءً بالعزل التام عن العالم الخارجي لفترات طويلة وانقطاع زيارات الأهل وصعوبة وصول المحامين إليهم، وعرض صور ومشاهد من دمار غزة أمام مرأى الأسرى لتثبيط معنوياتهم وبث مشاعر الإحباط في نفوسهم، إلى جانب أوضاع الاحتجاز المهينة والمذلة وأوضاعهم المعيشية الشديدة القسوة. 

جرائم التعذيب ليست محصورة بين أسوار سجن سديه تيمان

إن تلك الجرائم وغيرها فاقت كل تصوُر، وتجاوزت المفهوم التقليدي للتعذيب وتعريفاته، وهي ليست محصورة بين أسوار سجن سديه تيمان، الذي تفوح منه رائحة الموت والجريمة المنظمة، أو داخل معسكرات الجيش، بل أيضاً يحدث ما هو شبيه لها في السجون الأُخرى الخاضعة لمسؤولية وزير الأمن المتطرف إيتمار بن غفير. كما أن ممارستها غير مقتصرة على فئة دونَ غيرها، وإن كان النصيب الأكبر منها لمعتقَلي غزة الذين هم عنوان المرحلة، ولسان حالهم يقول: "من لم يُعتقل بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فكأنه لم يُعتقل أبداً" في إشارة إلى شدة التعذيب وقسوته مقارنة بالفترات التي سبقت الحرب، لتشكّل مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر الفترة الأكثر دموية، والأخطر في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة. ويمكن أن يخيَل للبعض أن وَصْفَنَا هذا مبالَغ فيه، بسبب غياب الصورة واقتصار أدلة الإثبات على الروايات والشهادات التي يُقدمها الضحايا، في ظل إصرار دولة الاحتلال على استمرار إغلاق السجون أمام وسائل الإعلام المتعددة، وممثلي المؤسسات الدولية، بينما شكّلت صور المفرَج عنهم، والآثار الجسدية والنفسية التي خلّفتها عليهم وظهرت على وجوههم وتصرفاتهم وأجسادهم الهزيلة، أدلة حيّة على فظاعة التعذيب، فكان المعتقَل معزز عبيات أحدهم.[1]

وتُضاف إلى ذلك الصورُ ومقاطع الفيديو التي نشرها جيش الاحتلال منذ بداية حرب الإبادة، والتي توثق تعذيب المعتقَلين وهم عراة، وتُظهر عمليات إذلال وإهانة جسدية ونفسية، بينها مقاطع استخدمها الوزير الفاشي (بن غفير) للتفاخر بجرائمه، وأُخرى مُسرَّبة توثق جريمة اغتصاب أحد معتقَلي غزة في معسكر سديه تيمان، وفقاً لما جاء في بيان مؤسسات الأسرى.[2]

هذا وقالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان: "إن آلاف الفلسطينيين تم اعتقالهم منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، بشكل تعسفي وسري، ويتعرّضون للتعذيب وغيره من أشكال المعاملة القاسية وغير الإنسانية والمهينة، بما فيها الاعتداء الجنسي بحق النساء والرجال."[3]  أمّا مركز الميزان لحقوق الإنسان، ومقره قطاع غزة، فقد وثَّق مجموعة من الشهادات الصادمة، وأكد هو الآخر أن قوات الاحتلال الإسرائيلي صعَّدت من جرائمها الوحشية بحق المعتقَلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومارست أنماطاً مُروعة من الانتهاكات التي هزت وجدان الإنسانية جمعاء.[4]  ومن جانبه، أكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن التعذيب المنهجي والواسع الانتشار الذي تعرّض له المعتقَلون الفلسطينيون يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.[5]  

 التعذيب يتجاوز في أهدافه انتزاع المعلومات 

التعذيب بحق المعتقَلين الفلسطينيين لا يهدف - كما هو معلَن إسرائيلياً - إلى انتزاع اعترافات ومعلومات، أو يمارَس في الحالات الخطِرة - "القنبلة الموقوتة" - فقط، بل أيضاً يهدف إلى الإذلال والإهانة وتدمير الإنسان الفلسطيني وتحطيم شخصيته الوطنية، والنيل من عزيمته وكسر إرادته، والتأثير في تفكيره وتغيير سلوكه ومعتقداته، وعن طريقه التأثير في محيطه الاجتماعي، وبذلك تحولت السجون إلى ساحات للتعذيب والقتل البطيء، ومدافن للأحياء. وللدلالة على ذلك، فإن التعذيب بشقَيه، الجسدي والنفسي، لا يقتصر على فترة التحقيق، بل أيضاً يُمارَس طوال فترة الاعتقال وبحق كل المعتقَلين، بمن فيهم الأطفال والنساء، وكذلك المعتقلين الإداريين الذين بغالبيتهم العظمى لا يخضعون للتحقيق، بينما تبقى آثاره تُلاحق المعتقَل إلى ما بعد الإفراج، ويمكن أن تسبب له ألماً طويلاً أو إعاقة مستدامة، ويمكن أن تكون سبباً في وفاته. وقد توفي كثيرون من الأسرى بعد الإفراج عنهم بفترات وجيزة متأثرين بما تعرضوا له خلال فترة سجنهم.

ولعل الأخطر هو ذاك التلازم المقيت بين الاعتقال والتعذيب؛ فما مِن فلسطيني، ذكراً كان أم أنثى، وصغيراً أم كبيرا، مرّ بتجربة الاعتقال، إلاّ وتعرض لشكلٍ أو أكثر من أشكال التعذيب، بمن فيهم الجرحى والمرضى والنساء الحوامل.

وفي السياق نفسه، قال المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إنه تمكن من الحصول على مئات الشهادات لمواطنين تم اعتقالهم بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وتم الإفراج عنهم لاحقاً، وإن شهاداتهم قدمت سرداً مؤلماً للتعذيب والإذلال والانتقاص من الإنسانية الذي تعرضوا له على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال فترة احتجازهم، وإن جميع مَن تمت مقابلتهم كانوا من المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن وذوو الإعاقة، وبينهم أطباء ومسعفون وممرضون وصحافيون ومحامون وموظفون حكوميون.[6] 

كما يُخطئ من يظن – وَهُم كثيرون - أن التعذيب وتأثير الاعتقال يقتصران على الأسير نفسه؛ فتجدهم يتضامنون مع الأسرى في السجون الإسرائيلية ويساندونهم، ولا يلتفتون إلى مَنْ يُعذَبون جرّاء الاعتقال من دون أن يكونوا أسرى. إن الأسرى والمعتقَلين ليسوا وحدهم ضحايا التعذيب، بل أيضاً أُسَرهم وعائلاتهم، وأحياناً أصدقاؤهم وجيرانهم وأقرباؤهم ضحايا مثلهم. وإن كنا نتحدث، هنا في بلادي، عن مليون حالة اعتقال على مدار فترة الاحتلال الإسرائيلي، فإن في أنحاء فلسطين ملايين آخرين تعرضوا للتعذيب، المباشر وغير المباشر، بسبب اعتقال شخص تربطهم به علاقة قرابة أو صداقة أو جيرة. 

تجارب جماعية متشابهة 

لقد عشت وعاش الآخرون تجارب لا يمكن تصوُرها، بل ويصعب على الإنسان تخيُلها ووصفُها، واستمعتُ وقرأت ووثّقتُ شهادات عديدة روت فظائع التعذيب التي تملأ السجون الإسرائيلية، وكان حديثهم يفيض بالألم والوجع، وبعضهم انفجر بكاءً وهم يصفون ما تعرضوا له.

ولست وحدي مَن لا تزال الصور المفزعة والأحداث المؤلمة راسخة في ذهنه ووجدانه، وأظن أن كل مَن مرّ بتجربة الاعتقال تحتفظ ذاكرته، كذاكرتي، بكثير من الصور والأحداث، بينها صور المُحققين والسجانين الإسرائيليين وَهُمْ يتباهون بإيلامنا ويبتسمون وهم يراقبون عذاباتنا ويتضاحكون لسماعهم صرخات أوجاعنا، وليس في استطاعتنا محوُها أو نسيانها. وإن كان الأسرى يعيشون في عذاب شديد وألم دائم ووجع عميق، فنحن، المحرَرين، نعيش عذاباً مؤجلاً، والألم يكمن داخلنا، وكلّما استعدنا جزءاً من الذاكرة، اضطررنا إلى أن نستحضر تجاربنا الشخصية أو الأسرية، ويمكن أن يحدث هذا حينما نكتب أو نقرأ شيئاً عن الاعتقال والتعذيب، أو عندما نشاهد صور المعتقَلين المُفرَج عنهم وَهُم في حالة مزرية، ونستمع إلى رواياتهم المروعة وشهاداتهم الصادمة، فيأتينا العذاب ونشعر بالألم ويشتد الوجع، وهنا يكمن جوهر فظاعة التعذيب.

ربما يُفصح البعض عما يؤلمه، بينما البعض الآخر يُبقيه مكتوماً داخلَه، ونحن مَن عاش تفاصيل الحكاية، ونحن مَن تتوجب عليهم كتابة فصول الرواية، طالما استطعنا ذلك، دفاعاً عن الحركة الوطنية الأسيرة باعتبارها مكوناً أساسياً من مكونات القضية الفلسطينية، وهذه دعوة مني للأسرى والمحرَرين إلى الكتابة كلما كان هذا ممكناً. 

تجربة شخصية وأسرية..

تجربتي الشخصية والأسرية تتشابك مع التجربة الجماعية، وبيقينٍ، فإن هناك في تجارب الآخرين ما هو أشد قسوة ومرارة.

كنت قد مررت بتجارب شخصية وأسرية عديدة، وجميعها أثرت فيّ؛ فقد عشت طفولة غير محبّبة، بعد أن تذوقت التعذيب جرّاء اعتقال والدي سنة 1970، وحينها، لم يكن عمري قد تجاوز الثلاثة أعوام، فعشت اليتم وأبي على قيد الحياة قبل أن يعود وقد صرت شاباً.

وعشت تجربة أُسرية غير طبيعية بفعل اعتقال رب الأسرة وتغييبه وراء القضبان لأكثر من 15 عاماً متواصلة، قبل أن تحرره المقاومة الفلسطينية في إطار صفقة تبادل الأسرى الشهيرة في 20 آيار/مايو 1985. وعشت تجربة شخصية مع الاعتقال بعد أن كبرت وتجاوزت مرحلة الطفولة، فمررت بالسجون نفسها، ودخلتُها أسيراً وليس زائراً، وخضت تجربة الاعتقال، ليس لمرة واحدة أو اثنتين وثلاث، إنما لأربع مرات، وأمضيت 6 أعوام وراء القضبان، فتذوقت قسوة التعذيب، الجسدي والنفسي، وكنت شاهداً على استشهاد عدد من المعتقَلين في أقبية التحقيق، وأدركت مدى الألم بجسدي، بعد أن رأيته على جسد أبي، ثم على جسد أخي وأقاربي وأصدقائي، وفي عيون أمي وأختَيَّ.[7]  لقد ظننت طويلاً أن السجن مرادف بطولة فقط، ولا سيما أنه ارتبط بالمقاومة التي لطالما افتخرنا بها وتغنينا بأبطالها. وحين أدركت المعنى الشمولي للسجن، أيقنت أن للسجن معنى آخر؛ فهو ليس بطولة فحسب، بل أيضاً ألم وعذاب؛ بطولة دائمة ووجع لا ينتهي بفعل الزمن. 

التعذيب والقانون الدولي..

يُعرَّف التعذيب (المادة 1/1 من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب) بأنه "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث - أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية."[8]

ويُعتبر التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية للأسرى والمعتقَلين انتهاكاً جسيماً وخطِراً لحقوق الإنسان، وامتهاناً للكرامة الإنسانية، وجرائم حرب، وفقاً للقانون الدولي الإنساني، وبمقتضى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي ممارسات تحظرها بصورة مطلقة المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات الصلة كافة، وفي المقدمة منها اتفاقيتا جنيف: الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، والرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.[9]

كما لا يمكن تبرير التعذيب في أي وضع، واستمراره يُعتبر بمثابة وصمة قبيحة تدنس ضمير الإنسانية، ووصمة عار على جبين الحضارة العصرية والديمقراطية المنشودة والسلام المأمول، وخرقاً فاضحاً للبند 2 من المادة 2 من الاتفاقية، والذي ينص على التالي: "لا يجوز التذرع بأي أوضاع استثنائية أياً تكن، سواء أكانت هذه الأوضاع حالة حرب أم كانت تهديداً بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلى أو أي حالة من حالات الطوارئ العامة الأُخرى كمبرر للتعذيب."

هذا وقد أكدت المادة 4 وجوب أن "تضمن كل دولة طرف أن تكون جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي، وينطبق الأمر ذاته على قيام أي شخص بأي محاولة لممارسة التعذيب وعلى قيامه بأي عمل آخر يشكّل تواطؤاً ومشاركة في التعذيب." 

إسرائيل انضمت إلى الاتفاقية سنة 1991، لكن... 

هنا لا بد من الإشارة إلى أن إسرائيل كانت قد انضمت إلى الاتفاقية سنة 1991، وتعهدت باحترامها، لكنها لم تكتفِ بعدم التزام أيٍ من بنودها في تعاملها مع المعتقَلين الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً أقرت مجموعة من القوانين والقرارات القضائية التي شرّعت التعذيب، ووفرت للمحققين حججاً دفاعية كافية للاستمرار في تعذيبهم المعتقَلين، الأمر الذي يوجب على الأمم المتحدة:

أولاً: التخلي عن ازدواجية المعايير.

ثانياً: اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لدفع دولة الاحتلال نحو التزام كل الاتفاقيات الدولية في تعامُلِهَا مع الأسرى والمعتقَلين الفلسطينيين، وبينها اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

ثالثاً: اتخاذ إجراءات صارمة لملاحقة مرتكبي التعذيب ومحاسبتهم، بمَن فيهم المسؤولون عن إصدار الأوامر، خاصة وأن غياب العدالة الدولية أدى إلى تعزيز ثقافة إفلات الإسرائيليين من العقاب بما عزز جرائم التعذيب بحق الفلسطينيين.

هذا بينما ينبغي على الدول الأعضاء وجميع المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني تحمُّل مسؤولياتها القانونية والإنسانية والأخلاقية في مساندة ضحايا التعذيب بفعل الاعتقالات الإسرائيلية اليومية التي تلحق الأذى والضرر بالفرد والأسرة والمجتمع الفلسطيني بأسره.

وهنا، يحضرني قول الشاعر والكاتب الدنماركي هلفدان راسموسن في قصيدة له: "ليس التعذيب ما يخيفني ولا السقوط النهائي للجسد، ولا فوهة بندقية الموت، أو الظلال على الجدار ولا الليل عندما تندفع نحو الأرض آخر نجمات الألم الشاحبة، إنما تخيفني اللامبالاة العمياء للعالم العديم الرحمة الفاقد الشعور".