المقدمة
يُعدّ الإهمال الطبي الممنهج بحقّ الأسرى الفلسطينيين أحد أخطر أنماط الانتهاكات التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي داخل السجون والمعتقلات، إذ تُحوّل الرعاية الصحية—التي تُعدّ حقًا مكفولًا بموجب القانون الدولي الإنساني—إلى أداة عقابية تُفضي إلى التعذيب البطيء وتصفية الأسرى جسديًا. فعوضًا عن توفير العلاج والرعاية اللازمة، تعتمد إدارة السجون سياسة الحرمان الطبي، وتأخير التشخيص والتحويل للمستشفيات، ووصف أدوية غير مناسبة، وترك الحالات المرضية تتفاقم دون تدخل، ما يؤدي إلى تدهور صحة مئات الأسرى واستشهاد عددٍ منهم داخل مراكز الاحتجاز أو بعد الإفراج بفترة وجيزة نتيجة الإهمال والتعذيب الطبي.
ويمثّل هذا النهج جريمة دولية مزدوجة؛ فهو من جهة جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف، لاسيما المادتين (32) و(56) من الاتفاقية الرابعة التي تُلزم قوة الاحتلال بتقديم الرعاية الصحية للمحتجزين وتحظر إلحاق الأذى بهم، وهو من جهة أخرى جريمة تعذيب وفقًا لاتفاقية مناهضة التعذيب (CAT)، حيث يُمارس الإهمال كوسيلة لإحداث الألم والمعاناة الجسدية والنفسية بشكل متعمّد ومنهجي، في انتهاك صارخ للحق في الحياة والسلامة الجسدية والكرامة الإنسانية.
أولاً: واقع الإهمال الطبي في السجون الإسرائيلي
1. أعداد المرضى وحالات الخطر
تشير آخر المعطيات الموثقة التي نُشرت قبل فرض القيود الإسرائيلية الصارمة على المعلومات في أواخر عام 2023، إلى أنّ واقع الأسرى المرضى في سجون الاحتلال يمثّل حالة كارثية ومتفاقمة. ووفقًا لبيانات نادي الأسير الفلسطيني ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان:
ومنذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، فرضت سلطات الاحتلال حظرًا واسعًا على الوصول إلى المعلومات داخل السجون، ومنعت المؤسسات الدولية والمحامين في حالات كثيرة من الاطلاع على أوضاع المرضى، ما يجعل الأرقام الحقيقية مرشحة لأن تكون أعلى بكثير من التقديرات السابقة.
وأكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ العيادات داخل السجون تعاني نقصًا بنيويًا في الخدمات والأدوية، وخاصة في سجون النقب وريمون وجلبوع، وسط انتشار شهادات موثقة عن تأخير نقل المرضى وغياب الفحوصات المتقدمة.
إن تغييب المعلومات ومنع الرقابة الطبية الدولية يمثل انتهاكًا مركبًا لواجبات القوة القائمة بالاحتلال، ومحاولة لإخفاء جرائم محتملة بحق المرضى والمصابين.
2. سياسة الإهمال المنهجي
تتبع إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية سياسة متعمدة تقوم على حرمان الأسرى من الرعاية الصحية، في إطار منظومة عقابية تهدف لإضعاف الجسد وكسر الإرادة. وتشمل هذه السياسة:
وتُظهر شهادات أسرى محرَّرين أن المرضى يعانون ساعات وأيامًا من الألم الحاد دون تدخل طبي، وأن نقلهم للعلاج لا يتم إلا بعد تدهور حالتهم إلى مراحل حرجة.
ثانيًا: شهادات وتقارير موثقة حول الإهمال الطبي
1. استشهاد الأسير خضر عدنان
في مايو/أيار 2023، استُشهد الأسير الشيخ خضر عدنان بعد إضراب مفتوح عن الطعام استمر87 يومًا، رفضت خلاله إدارة سجون الاحتلال نقله إلى مستشفى مدني مختص وتقديم الرعاية الطبية العاجلة، رغم تحذيرات واضحة من مؤسسات طبية إسرائيلية ومنظمات حقوقية بشأن خطورة حالته واحتمال وفاته. وقد مثّلت حادثة استشهاده دليلًا صارخًا على توظيف الإهمال الطبي كأداة قمع وتعذيب، وليس كإخفاق فردي أو عارض طبي.
شهادات محاميه وتقارير حقوقية فلسطينية ودولية أكدت أن سلطات الاحتلال تركته يواجه الموت البطيء عمدًا، في انتهاك فاضح لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني.
2. استشهاد الأسير محمد غوادرة
في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، استُشهد الأسير محمد حسين غوادرة بعد تدهور وضعه الصحي داخل السجون الإسرائيلية، في ظل حرمان متعمد من العلاج الطبي وتأخير نقله للعلاج لفترات طويلة، رغم إصابته بحالة عصبية خطيرة كانت تستدعي متابعة مستمرة. نُقل غوادرة من سجن مجدو إلى مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي في حالة متدهورة للغاية، قبل أن يُعلن عن استشهاده.
هذه الجريمة تأتي في سياق نمط مستمر من الوفيات داخل السجون بفعل سياسة الإهمال الطبي والقتل البطيء.
3.شهادات وتقارير حقوقية
تؤكد تقارير صادرة عن مؤسسات فلسطينية معنية بحقوق الإنسان، وعلى رأسها اللجنة الفلسطينية لحقوق الإنسان، أنّ سلطات الاحتلال تمارس الإهمال الطبي بشكل ممنهج ومتعمد بحق الأسرى المرضى، وتستخدم حرمانهم من العلاج كأداة تعذيب بطيء وتصفية تدريجية. كما وثقت تقارير منظمات دولية كـ هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية حالات مماثلة لأسرى تُركوا دون علاج رغم معاناتهم من أمراض خطيرة تهدد الحياة.
إن تراكم الشهادات والتوثيقات يؤكد أن هذه الممارسات ليست استثناءً، بل سياسة دولة تهدف لكسر روح الحركة الأسيرة وإنهاكها وإضعافها جسديًا ومعنويًا.
ثالثًا: المخالفات القانونية الدولية
يمثّل الإهمال الطبي بحق الأسرى جريمة مركّبة تمسّ جوهر القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان الدولي، حيث تنتهك سلطات الاحتلال منظومة من القواعد الملزمة، أبرزها:
|
مضمون الانتهاك |
المرجعية القانونية الدولية |
|
حرمان الأسرى من العلاج والرعاية الصحية يشكل انتهاكًا مباشرًا للحق في الحياة والسلامة الجسدية ومنع المعاملة القاسية أو اللاإنسانية |
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المواد (6) و(7) |
|
التزام قوة الاحتلال بضمان الرعاية الصحية الملائمة للمحتجزين، وتوفير الأدوية والخدمات الطبية المناسبة، ومنع الإضرار بهم |
اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة (1949)، المواد: 13، 15، 91، 92 |
|
تصنيف الحرمان الطبي المتعمد والتسبب بالألم أو المعاناة الشديدة كتعذيب أو معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة |
اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT)، المواد (1) و(16) |
|
تجريم الحرمان المتعمد من العلاج حين يمثل جزءًا من سياسة ممنهجة، واعتباره جريمة ضد الإنسانية أو جريمة حرب |
نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المادة 7(1) (جرائم ضد الإنسانية) والمادة 8(2)(a) (جرائم حرب) |
|
حظر استغلال الاحتجاز لحرمان الأفراد من الحماية الصحية أو تعريضهم لخطر الوفاة أو الإهمال |
القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا)، القواعد 24–35 |
وفق هذه النصوص، فإن استمرار حرمان الأسرى الفلسطينيين من العلاج واستعمال الإهمال الطبي كسلاح عقابي منهجي يرقى إلى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، ويستوجب تحركًا دوليًا عاجلًا للمساءلة.
رابعًا: البنية الإدارية للرعاية الصحية داخل السجون
تكشف البنية المؤسسية للرعاية الصحية في سجون الاحتلال عن طابع أمني-عسكري واضح يتعارض مع المعايير الطبية والأخلاقية الدولية، ويحوّل الخدمات الصحية إلى جزء من منظومة السيطرة والقمع بدلًا من كونها خدمة إنسانية مستقلة ومحايدة.
يتبع ما يُسمّى بـ "الطواقم الطبية" العاملة في مصلحة السجون الإسرائيلية لوزارة الأمن القومي (وزارة الأمن الداخلي سابقًا)، وليس لوزارة الصحة، ما يجعل الأطباء والممرضين جزءًا من الجهاز الأمني والعقابي وليس جهازًا علاجيًا مستقلًا. ويعني ذلك أن قراراتهم الطبية تخضع للاعتبارات الأمنية لا للحاجة العلاجية أو الأخلاق الطبية.
وثّقت منظمة "الأطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل (PHR)" أن العاملين الصحيين داخل السجون يتلقون تعليماتهم من إدارة السجون وأجهزة الأمن، ويقومون بـ:
وهو ما يُعدّ خرقًا فادحًا لواجب المهنة الطبية ولمبادئ أخلاقيات الطب (أبو قراط)، ومواد إعلان طوكيو الصادر عن الجمعية الطبية العالمية بشأن دور الأطباء في حالات الاحتجاز والتعذيب.
لا توجد أي هيئة رقابية مستقلة تشرف على العيادات الطبية داخل السجون، مع منع المؤسسات الفلسطينية الحقوقية والصحية من الوصول إليها. كما فرض الاحتلال منذ 2023 قيودًا غير مسبوقة على زيارات الصليب الأحمر، ما يعزز حالة السرية الأمنية والتعتيم التام على أوضاع المرضى والحالات الحرجة.
هذه البنية لا تمثل خللًا إداريًا، بل تصميمًا مؤسسيًا مقصودًا يجعل "الطب السجني" في إسرائيل جزءًا من أدوات العقاب والإخضاع والإخفاء، وليست منظومة علاجية، في انتهاك واضح لقواعد أخلاق المهنة الطبية والاتفاقيات الدولية.
خامسًا: الإطار الحقوقي الدولي والشهادات المؤسسية
تُجمع المؤسسات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب على أنّ سياسات الاحتلال في المجال الطبي داخل السجون تُشكّل انتهاكًا جسيمًا لالتزاماته القانونية والأخلاقية، وترقى في كثير من الحالات إلى مستوى التعذيب والقتل البطيء. وفيما يلي أبرز المواقف الموثقة:
|
الهيئة / المنظمة |
الموقف أو التصريح |
|
اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) |
شددت في بياناتها ومذكراتها الميدانية على وجوب التزام سلطات الاحتلال بضمان رعاية صحية ملائمة للأسرى، وفقًا للمادة (91) من اتفاقية جنيف الرابعة، بما يشمل توفير الأدوية، والطواقم المختصة، والنقل للمستشفيات دون تأخير. |
|
مقرر الأمم المتحدة الخاص بالتعذيب |
أكد في أكثر من تقرير أممي أن الحرمان من العلاج الطبي في سياق الاعتقال يُعدّ شكلًا من أشكال التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية، ويُحمّل دولة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن حياة وصحة المحتجزين. |
|
مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان – رام الله |
وثّقت منذ عام 2010 وفاة أكثر من 85 أسيرًا فلسطينيًا نتيجة الإهمال الطبي داخل السجون الإسرائيلية، مؤكدة أنّ هذا النهج ممنهج ويترافق مع تعتيم على السجلات الطبية وغياب للرقابة المستقلة. |
|
هيومن رايتس ووتش |
وصفت منظومة الرعاية الصحية في السجون الإسرائيلية بأنها "أداة عقاب وليست منظومة علاج"، وأشارت إلى أن الاحتلال يستخدم الرعاية الصحية كسلاح لإضعاف الأسرى وإجبارهم على الإذعان، في انتهاك صارخ للقانون الدولي. |
الخاتمة والتوصيات:
يتأكد ممّا سبق أن الإهمال الطبي بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال لا يُمثّل حالات فردية معزولة أو إخفاقات إدارية عابرة، بل يعكس سياسة عقابية ممنهجة تستهدف إنهاك الجسد وكسر الإرادة الإنسانية وصولًا إلى القتل البطيء والتصفية الجسدية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني ولأبسط معايير الكرامة والحق في الحياة.
إن هذا السلوك المنظم، المترافق مع التعتيم المتعمد ومنع الرقابة الدولية، يرقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق القانون الدولي، ويتطلب تحركًا عاجلًا يتجاوز حدود الإدانة اللفظية إلى آليات مساءلة ملزمة وفعّالة.
وبناءً عليه، تدعو المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين (تضامن) إلى ما يلي:
إن حماية الأسرى الفلسطينيين واجب قانوني وأخلاقي دولي، وأيّ صمت أو تراخٍ في المساءلة يُسهِم في استمرار هذه الجرائم ويفتح الباب لمزيد من الضحايا داخل سجون الاحتلال.