على مقعدٍ إسمنتي قديم داخل إحدى حدائق غزة، جلس إسلام حجازي تحت شمسٍ هادئة لا تشبه شمس الأيام التي عاشها كانت خلفه بقايا ألعاب أطفال وسياج حديدي صدئ، وفي الخلفية طفل يركض غير آبه بما حوله، كأن الحياة تصرّ على أن تستمر رغم كل شيء هنا، في هذا المكان المفتوح الذي يحمل بساطة الغزيين وإصرارهم، اختار إسلام أن يروي حكايته؛ حكاية شاب خرج من قلب العتمة، من المستشفى إلى سدي تيمان، ثم إلى الحرية التي ما زالت ثقيلة بذكريات لا تُنسى.
جلس بثبات، يضمّ يديه أمامه، وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه، لكن خلفها ظلّ طويل من الألم والصمود… وهنا بدأت قصته.
وُلد إسلام في مدينة غزة، وتخرّج من كلية الصحافة والإعلام، وعمل موظف علاقات عامة وإعلام في مستشفى أصدقاء المريض ومع الساعات الأولى للحرب، لم يتردد في حمل الكاميرا ومرافقة سيارات الإسعاف، موثقًا ما يراه، مؤمنًا أن نقل الحقيقة قد ينقذ حياة، أو يكسر جدار الصمت الذي يحاصر القطاع.
لكن في ديسمبر 2023، تغيّر كل شيء أصيب إسلام إصابة مروعة في رأسه؛ ضربة قوية شطرت جسده إلى نصفين مشلولين. توقفت عينه اليسرى عن الرؤية، وأذنه عن السمع، ويده وقدمه عن الحركة، تركت الإصابة فجوة في الجمجمة بطول ثلاثة سنتيمترات، منطقة مكشوفة لا يحميها عظم. كان يشعر أن ذاكرته تتبخر ببطء، وأن أبسط محاولة للتركيز تُنهكه.
بقي يتلقى علاجًا محدودًا في مستشفى الشفاء، قبل أن يقتحم الاحتلال المكان في يوم اثنين لا يشبه غيره. أصوات الرصاص والجنود وسقوط الأبواب جعلت المستشفى تتحول إلى ساحة مطاردة. كانت الشائعات تقول إن الاحتلال سيُخرج المرضى نحو الجنوب دون اعتقال، لكن الحقيقة ظهرت سريعًا الجميع كان هدفًا… المرضى والجرحى والسليمون.
تحقيق على الجرح المكشوف
رغم الشاش الذي يغطي رأسه والغرز البارزة، نقل الجنود إسلام إلى تحقيق ميداني طويل استمر 12 ساعة، صنفوه "خطرًا"، فأطلقوا الرصاص عليه "للسيطرة"، فأصابت الطلقة المكان نفسه الذي كان يعالج منه.
في محيط "العيادات الخارجية"، كان يسمع صرخات المعتقلين. قال له أحدهم إنه يتمنى ألا يبقى المبنى قائمًا عند عودته إلى غزة. علم إسلام لاحقًا أن هذا المعتقل قُلِع جلد رأسه تحت التعذيب.
وعندما دخل غرفة التحقيق العسكري، استقبله المحقق بتهديد مباشر: "إسلام… هذا تحقيق عسكري، اعترف قبل ما نبدأ."
لكن الحقيقة لم تكن هي ما يبحثون عنه، ضربوه على المنطقة المكشوفة من الرأس، على الدماغ مباشرة. كانت الإغماءات تتكرر، والضرب لا يتوقف، استخدموا الصعق الكهربائي والركل والضرب بالسلاح وأداة حديدية ووضع المحقق المسدس على رأسه مهددًا " انتهى… احكي." لكن إسلام لم يكن يملك شيئًا ليقوله.
شاحنة الموت… ثم بوابة الجحيم
بعد التحقيق، وضعوه في شاحنة أشبه بشاحنة مواشي، كان المعتقلون مكبّلين، معصوبي الأعين، والضرب يلاحقهم طوال الطريق، قفز أحد المعتقلين هربًا، فأطلق الجنود عليه عشرات الطلقات أمام أعينهم، واستشهد هناك.
ثم جاءت محطة سدي تيمان… أربعون يومًا يقول إسلام أنها "أسوأ أيام حياته". هنا يفقد الإنسان اسمه وملامحه ووجوده، كل شيء تحت السيطرة الحركة، الجلوس، النظرات، وحتى التنفس.
قال له الضابط يومها "إنت هون زي الحيوان… ممنوع تعمل شيء بدون إذن."
شهد إسلام معتقلين يُضربون حتى الموت منهم كمال راضي من خانيونس، وسامي السرساوي الذي استشهد بعد قمعة ليلية وكذلك معتقل فقعت عينه، وآخر بُترت ساقه بعد إجباره على الجلوس على ركبتيه 12 ساعة متواصلة.
الطبيب كان يقول: "لما تموت… بأجيك"
الإهمال الطبي، كما يقول إسلام، كان جزءًا من عملية التعذيب، فقد رأى بعينيه الدكتور عدنان البرش يموت لأن الطبيب رفض فحصه وهو يحتضر.
وعن العلاج أفاد إسلام بأنه كان شبه معدوم، حبة أكامول تُعطى فقط إذا اقترب المعتقل من الموت.
خمسة أشهر بقي إسلام مكبل اليدين والقدمين، يدخل الحمام مكبلاً، يستحم مرة أسبوعيًا مع 15 معتقلًا خلال 15 دقيقة، لا صابون… فقط معجون جلي.
وأكد إسلام أن الطعام بالكاد يكفي للبقاء حيًا "خمس أو ست قطع خبز قاسٍ، ملعقة مربى أو لبنة، وخيارة أو بندورة" أفقدته 30 كيلوغرامًا من وزنه.
ذاكرة تتفكك… وروح تبحث عن نافذة
يقول:
"ما عدت أعرف الخارج… نسيت وجوه أبناء إخوتي. كثيرون فقدوا عقولهم من شدة القهر."
ومع ذلك، كانت رؤيا رآها في المنام — لسيدنا يوسف عليه السلام — تمنحه قوة غريبة، شعر أن باب النجاة يقترب.
الحرية… والخوف الذي سبق العناق
عندما نادى السجان اسمه للإفراج، اختلطت مشاعره بين الفرح بالخروج، والوجع لأنه يترك خلفه إخوة عاش معهم كل شيء، وكان هناك خوفًا آخر كان ينخر قلبه: هل أهله ما زالوا أحياء؟ كثير من الأسرى خرجوا ليكتشفوا أن أحد أحبّتهم استشهد.
وعندما فتحت السيارة أمام بوابة السجن ورأى عائلته تنتظره أمه، أبيه، إخوته شعر كأنه يتنفس للمرة الأولى بعد عامين.
وضع رأسه على كتف أمه وبكى… بكى حياة لا يشبه بكاء التعذيب.
"أبقى هنا… هذه روحي"
يقول إسلام إن الاحتلال نصحه بالمغادرة للعلاج، لكن رسالته كانت واضحة:
"حتى لو كان العلاج خارج غزة بأفضل الإمكانيات… مش طالع هذه أرضي وروحي ودم إخوتي."
وختم قوله "سنصلي في المسجد الأقصى فاتحين… هذه ليست أمنية، بل عهد."