التعذيب الموجّه ضد الأسيرات الفلسطينيات: حين يتحوّل الجسد إلى ساحة حرب


التعذيب الموجّه ضد الأسيرات الفلسطينيات: حين يتحوّل الجسد إلى ساحة حرب

  

 

تقرير حقوقي توثيقي صادر عن المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين (تضامن) – نوفمبر/تشرين الثاني 2025

 

أولًا: مقدمة عامة

تعيش الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الإسرائيلي ظروف اعتقال قاسية ومهينة تتنافى مع القوانين والأعراف الدولية التي تكفل حماية الأسرى والمعتقلين، لاسيما النساء منهم. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، تصاعدت السياسات القمعية الإسرائيلية بحق الأسيرات الفلسطينيات، في سياق انتقامي منظم يستهدف النساء تحديدًا كجزء من سياسة العقاب الجماعي الممنهجة ضد الشعب الفلسطيني.

تتخذ إسرائيل من السجون أداة لترهيب وتفكيك بنية المجتمع الفلسطيني، وتتعامل مع أجساد النساء كساحة لإعادة إنتاج السيطرة والإذلال، عبر منظومة تعذيب ممنهجة تشمل الاعتداء الجسدي والنفسي، والإهمال الطبي، والتحرش الجنسي، والعزل، والإخفاء القسري. وغالبًا ما تبدأ معاناة الأسيرة منذ لحظة المداهمة الليلية لمنزلها، حين تُسحب من بين أطفالها وهي مقيّدة اليدين ومعصوبة العينين، لتُخضع بعد ذلك لاستجواب قاسٍ دون حضور محامٍ، واحتجاز في ظروف تفتقر لأدنى مقومات الحياة الإنسانية.

ووفقًا لتقرير تضامن الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، تحتجز سلطات الاحتلال نحو (53) أسيرة فلسطينية ، بينهن معتقلات إداريات وطفلتان وأسيرة من قطاع غزة، إلى جانب أسيرتين في حالة صحية حرجة، معظمهن يقبعن في سجن الدامون في ظروف بالغة السوء.

 إن ما تتعرض له النساء الفلسطينيات داخل السجون ومعسكرات الاعتقال لا يمكن اعتباره تجاوزات فردية، بل هو نظام تعذيب قائم على النوع الاجتماعي، يُستخدم كسلاح إذلال متعمد لتحطيم إرادة المرأة الفلسطينية ورمزيتها في الصمود والهوية والمقاومة.
ففي روايات الأسيرات، يتكرّر المشهد ذاته: الضرب، والتهديد بالاعتداء الجنسي، والتفتيش العاري، والحرمان من النوم والطعام والعلاج. تقول إحدى الأسيرات: لم يريدوا اعترافًا، أرادوا أن أكسر وأشعر بالعار.”

 

ثانيًا أنماط التعذيب الممنهج ضد الأسيرات الفلسطينيات

تظهر الشهادات الموثقة، سواء من غزة أو الضفة الغربية أو داخل أراضي الـ48، أن التعذيب الموجّه ضد الأسيرات يأخذ أشكالًا متعددة، جسدية ونفسية وجنسية، ومن أبرزها:

1. التعذيب الجسدي المباشر

  • الضرب والركل والشبح: تستخدم العصا وكعوب البنادق للضرب على الرأس والظهر، كما يتم تعليق الأيدي للخلف لفترات طويلة.
  • الصفع وشد الشعر: خاصة أثناء التحقيق أو أثناء عمليات التفتيش داخل الزنازين.
  • التفتيش العاري المهين : يجبرن على خلع الملابس بالكامل، وأحيانًا على الركوع أو القرفصاء عاريات، مع تعليقات مهينة وسخرية من الجسد.
  • الحرمان من النوم:  إبقاء الإضاءة مشتعلة طوال الليل وتسليط المصابيح على الوجوه.
  • التقييد المفرط:  تقييد اليدين والقدمين لساعات طويلة، أحيانًا خلال الولادة أو أثناء التحقيق.

2.  التعذيب النفسي والإذلال

  • التهديد بالاغتصاب أو القتل: ممارسة تهديدات مستمرة أثناء التحقيق، وتهديد بإيذاء أفراد العائلة.
  • الإهانات الجنسية والدينية: شتائم متكررة تمس العرض والدين، ونزع الحجاب بالقوة.
  • العزل الانفرادي المطوّل:  يوضعن في زنازين ضيقة مظلمة دون تهوية أو تواصل بشري.
  • الإذلال الجماعي : يجبرن على الرقص أو ترديد شعارات إسرائيلية أثناء التفتيش، وإجبارهن على تقبيل الإسرائيلي.

3. العنف القائم على النوع الاجتماعي

  • العنف الجنسي: يشمل اللمس القسري أثناء التفتيش، والتحرش اللفظي، وتهديدات صريحة بالاغتصاب.
  • استخدام الجسد كسلاح حرب : إذلال المرأة أمام الأسيرات الأخريات لإخضاعها وكسر إرادتها.

4. الإهمال الطبي كأداة تعذيب

  • حرمان الحوامل والنفساء من العلاج: ترك الجروح القيصرية دون عناية، ومنع الأدوية أو المتابعة الطبية.
  • الحرمان من النظافة والفوط الصحية: أسيرات اضطررن لتمزيق ملابسهن لاستخدامها كبديل عن الفوط.
  • سوء التغذية:  تقديم طعام فاسد ومياه ملوثة وحرمان من الكانتينا.

5.  الإجراء الطبي القسري

  • سحب عينات DNA بالقوة: كما في حالة الأسيرة هديل الدحدوح التي أُخذت منها ومن طفليها عينات وهي مقيدة ومخدّرة جزئيًا.
  • الحقن بالمهدئات دون موافقة: لاستخدامها أثناء التحقيق بهدف فقدان الوعي أو السيطرة.

 

ثالثًا: نماذج من التعذيب والشهادات الحيّة

1.  الأسيرة هديل يوسف الدحدوح (24 عامًا – غزة)

اعتُقلت وهي أم لطفلين بعد قصف منزلها ونزوحها المتكرر، وتعرّضت في معسكر سديه تيمان لاعتداءات قاسية، تضمنت تحليل حمض نووي وهي مقيّدة، وضرب مبرح على الظهر والوجه، وتجريد من الحجاب والملابس. قالت:

"سحبوا عيّنة من ظهري وأنا مقيدة، كنت أصرخ وأبكي، وصدري يؤلمني لأن طفلي جائع ولم أستطع إرضاعه."
احتُجزت في عنتوت والدامون 49 يومًا، وتعرّضت للحرمان من العلاج بعد ولادة قيصرية حديثة.

2. الطالبة الفلسطينية أ.أ (العشرينات – الداخل المحتل)

اعتُقلت بسبب منشور على وسائل التواصل الاجتماعي. خضعت لتفتيش عارٍ مهين، وأُجبرت على الركوع وهي عارية أمام مجندات، وتعرضت للسخرية من جسدها وحجابها. عانت من الحرمان من الفوط الصحية والنوم والماء، وأمضت أيامًا في سجن الشارون والدامون قبل الإفراج عنها دون تهمة.

3. نهال الغندور (40 عامًا – غزة)

مُدرّسة وأم لأربعة أطفال، اعتُقلت قرب حاجز نتسريم مع عشرات النساء. روت أنها تعرّضت في سجن الدامون للركل، والسحل من الشعر، والإهانة المتكررة.

"ركلونا، شتمونا، وسحبونا من شعرنا… لم يسمحوا لنا بالنوم، وكانوا يشغّلون الموسيقى ويصرخون علينا طوال الوقت."
أُفرج عنها بعد أسبوعين وهي تعاني من صدمة نفسية حادة.

4. نبيلة مقداد (39 عامًا – غزة)

أم لخمسة أبناء فقدت إخوتها خلال الحرب. اعتُقلت من مدرسة تأوي نازحين في حي الشيخ رضوان بعد اقتحامها، وخضعت لتفتيش عارٍ على يد جندية.

"أجبرتني على خلع ثيابي والبقاء بملابسي الداخلية فقط… قال المحقق إنني لن أرى ابني الصغير إذا لم أتحدث."
احتُجزت في ظروف مهينة، على الأرض، دون بطانيات أو طعام كافٍ، وتعرّضت للضرب والشتائم المتكررة.

5. نادية الحلو (45 عامًا – غزة)

أم لثلاثة أطفال، اعتُقلت من مخيم البريج واقتيدت إلى معسكرات عنتوت وزيكيم وسجن الدامون.

"أرادوا إذلالنا لا أكثر. جعلونا نقف شبه عاريات أمام الجنود، ثم التقطوا لنا الصور وأمرونا أن نقول: بخير".
خلال احتجازها حُرمت من الدواء رغم معاناتها من السكري وضغط الدم، وتعرّضت للضرب والبصق والإهانة طوال النقل.

6. رقيّة عمرو (25 عامًا – الخليل)

طالبة دراسات عليا، اعتُقلت من منزلها بعد منتصف الليل، وتعرّضت للتهديد بالاعتداء الجنسي على يد ضابط.

"صرخ وقال إنه سيتركني للجنود ليفعلوا بي ما فعله رجال حماس بالنساء اليهوديات."
نُقلت بين عوفر، الشارون، والدامون، وتعرّضت للتفتيش العاري المتكرر، والحرمان من الطعام والفوط الصحية، والتهديد بالانتقام من عائلتها.

 

رابعًا : الإطار القانوني الدولي

تمثل الممارسات الموثقة بحق الأسيرات الفلسطينيات انتهاكًا صارخًا لكل من:

  • اتفاقية جنيف الرابعة (المواد 27، 32، 147) بشأن حماية المدنيين واحترام كرامتهم.
  • اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT) التي تحظر التعذيب والمعاملة القاسية أو المهينة في جميع الظروف.
  • نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (المادتان 7 و8) التي تُصنف التعذيب والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
  • كما تنتهك هذه الممارسات المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف التي تُلزم أطراف النزاع بمعاملة جميع الأشخاص المحتجزين معاملة إنسانية دون تمييز.
  • كما تُعدّ هذه الممارسات شكلًا من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي تحظره اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، لا سيّما المادة (12) بشأن الحماية أثناء النزاعات المسلحة.

 

خامسًا: الخاتمة والتوصيات

تؤكد "تضامن" أن ما تتعرض له الأسيرات الفلسطينيات يُشكّل نمطًا من التعذيب الممنهج الذي يرقى إلى جرائم حرب تستوجب المساءلة الدولية.
وتدعو المؤسسة المجتمع الدولي، والمنظمات النسوية والحقوقية، إلى تحريك آليات المساءلة وضمان عدم إفلات مرتكبي الانتهاكات من العقاب، وإدراج قضية الأسيرات الفلسطينيات ضمن أولويات أجندة مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية من خلال:

  1. تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة برعاية الأمم المتحدة لتقصي الحقائق حول أوضاع الأسيرات والمحتجزين في معسكرات الاحتلال.
  2. ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم التعذيب والإذلال الجنسي والاحتجاز غير القانوني.
  3. الضغط على اللجنة الدولية للصليب الأحمر لاستئناف زياراتها لسجون النساء وإصدار تقارير علنية.
  4. توفير حماية عاجلة للأسيرات وضمان الإفراج عن المرضى والجرحى والناجيات من التعذيب.

 

تضامن

9/11/2025