تضع مؤسسة تضامن هذه الشهادة المصوّرة والتفريغ النصي الكامل لها ضمن أرشيفها الحقوقي، بوصفها إفادة موثقة تتعلق بانتهاكات الإهمال الطبي وسوء المعاملة أثناء الاحتجاز.
تهدف عملية النشر إلى حفظ الشهادة، وإتاحتها للباحثين والحقوقيين، واستخدامها في جهود التوثيق والمساءلة القانونية.
تضامن- 26/11/2025
الاسم: إسلام حجازي
الصفة: أسير محرر
نوع الإفادة: شهادة مصوّرة + تفريغ نصي
محور الانتهاك: الإهمال الطبي – التعذيب – سوء المعاملة
تاريخ التوثيق: (18-12-2025
الجهة الموثِّقة: المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين – تضامن
كنت أعمل موظف علاقات عامة وإعلام في مستشفى أصدقاء المريض، منذ اليوم الأول للحرب، كنت أرافق سيارات الإسعاف، أوثّق الإصابات، وأنشر ما يحدث على حساباتي في وسائل التواصل الاجتماعي، كنت أرى أن واجبي الإنساني هو نقل الحقيقة، وأن دوري الإعلامي قد يساهم في إنقاذ حياة أو إيصال صورة لا يصل إليها العالم.
لكن حياتي تغيّرت فجأة في ديسمبر 2023 عندما أصبت إصابة شديدة في الرأس، ضربة قوية أدت إلى شلل كامل في النصف الأيسر من جسدي: عيني اليسرى توقفت عن الرؤية، أذني اليسرى عن السمع، يدي وقدمي اليسرى عن الحركة.
تركت الإصابة فراغًا في عظم الجمجمة بطول ثلاثة سنتيمترات، منطقة مكشوفة لا يحميها شيء أصبحت غير قادر على العمل، وبقيت في مستشفى الشفاء أتلقى علاجًا طبيعيًا محدودًا وكنت أشعر أن ذاكرتي تضعف كل يوم، وأن عقلي يرهق مع كل محاولة بسيطة للتركيز.
وفي أحد أيام الاثنين، اقتحم الاحتلال مستشفى الشفاء اقتحامًا هائلًا لا يمكن وصفه صراخ الجنود، إطلاق النار، اقتحام الغرف، تكسير الأبواب. كنا نسمع أنهم سيُخرجون المرضى إلى الجنوب دون اعتقال، لكن خلال دقائق قليلة كُشف لنا أن الأمر كان مجرد إشاعة. اعتقلونا جميعًا: المرضى، الجرحى، السليمون، المطلوبون وغير المطلوبين… لم يميزوا بين أحد.
نُقلت مباشرة إلى التحقيق الميداني، رغم أن رأسي كان ما يزال ملفوفًا بالشاش والغرز واضحة، بقيت اثنتي عشرة ساعة في ساحة التحقيق. صُنّفت "شخصًا خطيرًا"، وبدلًا من مراعاة إصابتي، أطلقوا النار عليّ "للسيطرة"، فأصابت الطلقة المكان نفسه الذي كنت أعالَج منه. خلال الانتظار، كنا نسمع صرخات المعتقلين داخل مبنى "العيادات الخارجية"، صرخات تكفي لتدمير أعصاب أي إنسان. قال لي أحد المعتقلين إنه يتمنى عندما يعود إلى غزة ألا يجد هذا المبنى قائمًا لأنه يحمل له أسوأ ذكرياته. علمنا لاحقًا أنه تم قلع جلد رأسه أثناء التحقيق.
عندما دخلت غرفة التحقيق العسكري، استقبلني المحقق بتهديد مباشر: "إسلام… هذا تحقيق عسكري. اعترف قبل ما نبدأ." أجبته بأنني لا أعرف شيئًا، لكنهم لم يكونوا يبحثون عن الحقيقة، بل عن الانهيار. ضربوني على منطقة الرأس المصابة بشكل مركز، على جرح لا عظم فيه، على الدماغ مباشرة. كنت أفقد الوعي مرارًا، فيوقظونني بالقوة ليكملوا الضرب. استخدموا الصعق الكهربائي، والركل، والضرب بالسلاح، وأداة حديدية. هدّدوني بالقتل ووضع المحقق المسدس على رأسي وقال: "انتهى… احكي" قلت له: "حتى لو قتلتني، ما عندي شيء أحكيه." لم ينتزعوا مني أي اعتراف لأنني ببساطة لا أعرف شيئًا مما يسألون عنه.
بعد التحقيق، نقلونا في شاحنات تشبه شاحنات نقل المواشي. كنا مكبلين، معصوبي الأعين، والضرب مستمر طوال الطريق أحد المعتقلين قفز من الشاحنة محاولة للهرب، فأطلقوا عليه عشرات الطلقات أمام أعيننا، واستشهد هناك في لحظة.
ثم بدأت فترة سدي تيمان، أربعون يومًا هي الأسوأ في حياتي. هناك يفقد الإنسان إنسانيته بالكامل يتحكم الجيش بكل تفاصيل حياتك: الوقت، الحركة، النظرات، حتى طريقة الجلوس. ممنوع التحدث، ممنوع الالتفات، ممنوع رفع الرأس. الضابط قال لي: "إنت هون زي الحيوان… ممنوع تعمل أي شيء بدون إذن." القمع كان يحدث يوميًا، وشاهدت أمامي معتقلين يُضربون حتى الموت. استشهد كمال راضي من خانيونس بعد قمعة، وسامي السرساوي استشهد بعد قمعة ليلية. معتقل فُقئت عينه بضربة مباشرة، وآخر بُترت ساقاه بعد جلوسه على ركبتيه اثنتي عشرة ساعة في التحقيق حتى انقطع الدم عن قدميه.
كان الإهمال الطبي جزءًا من التعذيب. الطبيب كان يقول حرفيًا: "لما تموت… بأجيك". رأيت الشهيد الدكتور عدنان البرش يموت أمام أعيننا لأن الطبيب رفض فحصه حين كان حيًا. تلقي العلاج صعب جدًا الأدوية غير موجودة، ولا يُعطى المعتقل سوى حبة أكامول حينما نقترب من الموت فقط، حتى لو كانت إصابته قاتلة. الممرضون كانوا يرددون: "إنتم نخبة… لازم تتحملوا"
النظافة كانت شبه معدومة. بقيت خمسة أشهر مكبل اليدين والرجلين. كنت أدخل الحمام مكبلًا، ولا أستطيع تنظيف نفسي. الاستحمام مرة واحدة أسبوعيًا لخمسة عشر شخصًا خلال خمس عشرة دقيقة. لم يكن هناك صابون، فقط معجون جلي نغتسل به. الفُرش رقيقة، والأغطية بائسة، والبرد في عوفر ونفحة كان قاسيًا.
أما الطعام، فكان أقل من الحد الأدنى للبقاء. خمس أو ست قطع خبز، ملعقة مربى أو لبنة، وخيارة أو بندورة. خبز قاسٍ بلا قيمة غذائية. فقدت خلال الاعتقال ثلاثين كيلوغرامًا من وزني. دخلت وأنا أزن مئة كيلو، وخرجت وأنا أزن سبعين.
مع مرور الوقت بدأ عقلي يتعب وذاكرتي تضعف. العالم كله أصبح غرفة صغيرة. لم أعد أعرف الخارج. وعندما خرجت، رأيت أبناء إخوتي ولم أعرف أحدًا منهم. نسيت ملامحهم، وانقطعت صلتي بالعالم لعامين كاملين. كثير من المعتقلين فقدوا عقولهم بسبب التعذيب والقهر، ولم يعودوا قادرين على التمييز أو التفكير.
ورغم كل شيء، كنت أحاول التشبث بأي خيط من الأمل. رأيت في المنام سيدنا يوسف عليه السلام قبل خروجي من السجن، ورأيت نفسي أخرج معه. تلك الرؤيا منحتني قوة روحية مدهشة، جعلتني أؤمن أن الفرج قريب.
عندما نادوا اسمي للإفراج، اختلطت مشاعري بشكل لم أجربه في حياتي. كنت فرحًا بالخروج، لكن حزينًا لأن إخوتي الذين عشت معهم الألم ذاته لن يخرجوا معي. عانقتهم واحدًا واحدًا، وودعتهم. بكينا جميعًا، وكانت تلك اللحظة من أثقل اللحظات على قلبي.
ومع اقترابي من لحظة الخروج، كان الخوف الأكبر يتسلل إليّ: ماذا عن أهلي؟ هل ما زالوا أحياء؟ هل أصيب أحد منهم؟ فقد كنت معزولًا تمامًا طوال الاعتقال، ولا أعرف شيئًا عمّا حدث خارج السجون. كثير من الأسرى الذين كانوا معي خرجوا ليكتشفوا أن أحد أفراد عائلاتهم استشهد خلال الحرب، فكان هذا الخوف يتضاعف داخلي كلما اقترب موعد الإفراج.
عندما خرجت من بوابة السجن، لم أكن أرى الطريق، بل كنت أبحث بقلبي قبل عينيّ. رأيت سيارة تقترب، وكنت أتساءل: هل هذه سيارة أهلي؟ هل هذا حقًا من تبقى لي؟ وعندما اقتربت السيارة وفتح الباب ورأيتهم جميعًا—أمي، أبي، إخوتي—واقفين أمامي أحياء، شعرت أنني أتنفس للمرة الأولى بعد عامين كاملين. بكيت بكاءً لا يشبه بكاء التعذيب أو الجوع… كان بكاء حياة. وضعت رأسي على كتف أمي، وشعرت أنني عدت طفلًا من جديد. كنت أحمد الله في قلبي بلا توقف، لأن الخوف الأكبر الذي حملته طوال تلك المدة انتهى بلحظة نجاة.
رسالتي للعالم أن ما يحدث في سجون الاحتلال ليس شأنًا سياسيًا، بل جريمة إنسانية مستمرة. هناك معتقلون لا يعرف أهلهم إن كانوا أحياء أم شهداء. هناك مرضى يموتون دون علاج، وأطفال ونساء ورجال يفقدون عقولهم من شدة الظلم. العالم إن كان يؤمن بالإنسانية، فعليه أن يقف أمام هذه الجرائم.
أما رسالتي للاحتلال، فهي أنني لن أغادر غزة. قالوا لي إن غزة لا مستقبل لها وإن عليّ أن أغادر للعلاج، لكنني قلت لهم: حتى لو كان العلاج خارج غزة بأفضل الإمكانيات، فسأبقى هنا. هذه أرضي، وهذه روحي، وهنا دمي ودروب إخوتي الشهداء الذين عاهدوني وعاهدتهم أننا على الطريق باقون: إما النصر أو الشهادة. سأبقى هنا حتى نحقق حلمنا الذي حلمناه معًا: أن نصلي في المسجد الأقصى فاتحين مكبرين، ونرى فلسطين حرّة كما يجب أن تكون.
هذه حكايتي… كما عشتها، وكما تركت جروحها على جسدي وذاكرتي وروحي، وكما أرويها اليوم لتُعرف الحقيقة كما هي، دون نقص أو تهذيب.
سجل الإفادة : محمد دبابش وإسلام أبو سيدو
زر الملف للتنزيل بصيغة pdf في الأعلى
الفيديو التالي يُعرض لأغراض التوثيق الحقوقي.
https://youtu.be/T6w2Q9Nqnq8
تندرج الوقائع الواردة في هذه الشهادة ضمن انتهاكات محظورة بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما اتفاقيات جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب.