ما الذي يجعل ما يحدث في سجون الاحتلال الإسرائيلي «تعذيبًا ممنهجًا»؟


ما الذي يجعل ما يحدث في سجون الاحتلال الإسرائيلي «تعذيبًا ممنهجًا»؟

  

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تحوّلت سجون الاحتلال الإسرائيلي إلى ساحات مفتوحة لانتهاكات جسيمة ومنظمة ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، في إطار سياسة رسمية قوامها الإذلال والتجويع والتعذيب المادي والنفسي، وتحظى بغطاء قانوني وسياسي صادر عن أعلى مستويات منظومة الحكم في إسرائيل.
هذه الانتهاكات لم تعد أفعالًا فردية أو تجاوزات ميدانية معزولة، بل أصبحت نظام قمع مؤسسي متكامل تُشرف عليه أجهزة أمنية وعسكرية رسمية، وتستهدف الفلسطينيين بصفتهم الجماعية لا الفردية، في انتهاك صارخ لمبدأ حظر التعذيب المطلق في القانون الدولي.

 

أولًا: من لحظة الاعتقال إلى الزنزانة – تعذيب متواصل ومنهجي

يبدأ التعذيب منذ لحظة الاعتقال الميداني، حيث يُجبر المعتقلون على الانبطاح أرضًا ويتعرضون للضرب المبرّح، والتقييد المؤلم، والتجريد من الملابس، والإهانات اللفظية والجسدية، قبل نقلهم إلى مراكز التحقيق والسجون المركزية التي تفتقر لأدنى معايير الكرامة الإنسانية.
منظمة العفو الدولية Amnesty International، نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وثّقت أن قوات الاحتلال "أطلقت حملة اعتقالات واسعة النطاق، تخللتها ممارسات تعذيب وإذلال وتجويع وحرمان من النوم والعزل المطوّل".
كما أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان (OHCHR، يوليو/تموز 2024 ) أن هذه الممارسات "تمثّل نمطًا ممنهجًا من التعذيب والمعاملة القاسية، قائمًا على قرارات سياسية وتشريعية واضحة".

شهادات الأسرى المحررين التي وثّقتها الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الفلسطينية والدولية تظهر أن التعذيب يتم بعلم وإشراف مباشر من قيادات أمنية إسرائيلية، بهدف كسر الإرادة الفلسطينية لا انتزاع المعلومات فقط.
يقول أحد الأسرى المحررين في شهادة موثّقة أمام لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب:

"كانوا يركلوننا ويسكبون الماء البارد على رؤوسنا أمام الجنود الذين يضحكون، كانوا يتعاملون معنا كأشياء لا كبشر".
هذا المشهد يلخّص الثقافة المؤسسية للإذلال والسيطرة المتجذّرة في بنية جهاز الأمن الإسرائيلي.

 

ثانيًا: "سدي تيمان" – المختبر الميداني للتعذيب الجماعي

تحوّل معسكر سدي تيمان في صحراء النقب إلى رمز للرعب والإذلال الممنهج، حيث يُحتجز مئات الأسرى الفلسطينيين في خيام معدنية مغلقة وسط ظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية.
تقارير صادرة عن هيومن رايتس ووتش (HRW) ومنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان–إسرائيل (PHR-Israel)  وثّقت حالات متكرّرة من الضرب الجماعي، والتجويع، والحرمان من النوم، ومنع الدواء والزيارات، والاعتداءات الجنسية، بما في ذلك تسريب مصوّر في 2025 أظهر تعرّض أسير فلسطيني لاغتصاب على يد عناصر أمن داخل المعسكر.

أكدت لجنة التحقيق الأممية الخاصة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة (2025) أن سلطات الاحتلال "تستخدم العنف الجنسي والجندري كسلاح قمعي"، يشمل التفتيش العاري، والتحرش، والتهديد بالاغتصاب، ما يجعل هذه الأفعال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي الإنساني.

 

ثالثًا: تشريعات "الطوارئ" – حين يُشرَّع التعذيب

في أكتوبر 2023، أعلنت سلطات الاحتلال ما يسمى بـ حالة الطوارئ في مصلحة السجون، ومنحت وزير الأمن القومي صلاحيات استثنائية تشمل:

أ. القيود على الزيارات

  • إلغاء زيارات اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشكل كامل.
  • تقليص الزيارات العائلية إلى حد الإيقاف.
  • تقييد وصول المحامين إلى الأسرى، وتأجيل مواعيد الزيارات القانونية.

ب. التجويع وتقليص الموارد

  • خفضت مخصصات الطعام اليومية إلى مستويات غير كافية.
  • مُنعت الكانتينا من تزويد الأسرى بمواد أساسية.
  • في بعض السجون، تم إلغاء اللحوم والفواكه من الوجبات.

ج. ظروف الإقامة والمعيشة

  • مصادرة الأدوات الكهربائية والكتب.
  • تقليص عدد الأغطية والملابس.
  • إغلاق الكانتينا لفترات طويلة.

د. إجراءات القمع

  • اقتحامات متكررة للأقسام بذريعة التفتيش الأمني.
  • عقوبات جماعية مثل العزل وإغلاق الأقسام.
  • نقل جماعي للأسرى بين السجون لإضعاف الروابط التنظيمية.

 

وصفت منظمة العفو الدولية (2024) هذه الإجراءات بأنها "تشريع فعلي للتعذيب الجماعي"، فيما أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان أنها تمثّل “انتهاكًا صارخًا للمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، التي تحظر التعذيب والمعاملة القاسية أو المهينة

كما أصدرت منظمات حقوقية إسرائيلية بارزة مواقف متطابقة:

  • B’Tselem بتسيلم: وصفت حالة الطوارئ بأنها "غطاء لقمع غير مسبوق"، مشيرة إلى أن مصلحة السجون تستخدم مصطلح "الطوارئ" لتبرير الإغلاق الكامل والحرمان من أبسط مقومات الحياة.
  • - ACRI جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل: أكدت أن ما يجري هو "انتهاك متواصل لحقوق الأسرى يرقى إلى معاملة لا إنسانية ومهينة"، ويقوّض الضمانات القضائية الأساسية.
  • HaMoked   -مركز الدفاع عن الفرد: وثّق عشرات الشكاوى من أسرى وذويهم حول منع التواصل التام مع العائلات لأشهر طويلة، في خرق فاضح للمادة 116-من اتفاقية جنيف الرابعة التي تضمن الحق في المراسلة والزيارات.
  • أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل (PHR-Israel): سجّلت حالات تدهور صحي خطير بين الأسرى نتيجة الحرمان المتعمّد من الأدوية والعلاج الطبي، مؤكدة أن هذه السياسات ترقى إلى "عقوبة جماعية محظورة بموجب القانون الدولي الإنساني".

تُظهر هذه المواقف أنّ التعذيب في السجون الإسرائيلية لم يعد ممارسة ميدانية، بل تحوّل إلى نظام إداري وتشريعي قائم بحد ذاته، تُشرّع عبره الحكومة الإسرائيلية الإذلال والعقاب الجماعي تحت ذريعة الأمن القومي.


بهذا، أصبح التعذيب جزءًا من الهيكل الإداري للسجون الإسرائيلية، محميًا بقرارات رسمية وتشريعات استثنائية تضمن الإفلات من العقاب.

 

رابعًا: الإطار القانوني الدولي المُلزِم

  1. اتفاقية مناهضة التعذيب ( 1984، (UNCAT: تحظر أي عمل يُلحق ألمًا أو معاناة شديدة جسدية أو نفسية عمدًا، لأي غرض كان، وتؤكد أن "لا ظروف استثنائية على الإطلاق تبرّر التعذيب"
    "لا يجوز التذرع باية ظروف استثنائية ايا كانت، سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب أو تهديدا بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلى أو اية حالة من حالات الطوارئ العامة الاخرى كمبرر للتعذيب
    .” (المادة 2).

     
  2. اتفاقية جنيف الرابعة (1949، المادتان 27 و32):
    تضمن المعاملة الإنسانية للأشخاص المحميين، وتحظر العقوبات الجماعية والتعذيب.


- "...ومع مراعاة التدابير التي تقتضيها ضرورات الدولة، يجوز للطرف القائم بالاحتلال أن يفرض على الأشخاص المحميين القيود اللازمة على حركتهم، غير أنه يجب احترام كرامتهم في جميع الأحوال." (المادة 27)

- "تحظر الأطراف السامية المتعاقدة صراحة اتخاذ أي تدابير من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المحميين الموجودين في أيديها.
ويحظر بوجه خاص القتل والتعذيب والمعاملة الوحشية التي تنجم عنها معاناة بدنية أو أذى جسيم بالصحة، وكذلك أي أعمال أخرى من أعمال القسوة سواء ارتكبتها السلطات المدنية أو العسكرية أو أي من موظفي الدولة أو الأفراد." ( المادة32)

 

  1. نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) :
    يعتبر التعذيب والعنف الجنسي والاختفاء القسري جرائم ضد الإنسانية متى مورست على نطاق واسع أو منهجي (المادة 7).
  2. العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966، المادة 7):
    لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب أو للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.”

 

خامسًا: أركان التعذيب الممنهج

يتحقق وصف "التعذيب الممنهج" وفقًا لتعريفات لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب ومبادئ القانون الدولي عبر ثلاثة عناصر رئيسية:

  1. الطابع المتكرر والمنسق:
    استخدام الأساليب نفسها (الضرب، الشبح، الحرمان، الإهانة، العزل، التعري القسري، الاغتصاب) بشكل واسع ومتكرر في جميع السجون ومراكز التحقيق.
  2. الإشراف المؤسسي:
    تورّط مستويات قيادية في التخطيط أو الموافقة أو التساهل مع التعذيب، بما يشمل أجهزة الأمن العام (الشاباك) ومصلحة السجون والجيش.
  3. الغطاء القانوني والسياسي:
    إصدار تشريعات أو أوامر رسمية تُبرّر التعذيب تحت ذرائع "الأمن القومي" أو "الضرورة العسكرية"، ما يشكّل إفلاتًا ممنهجًا من العقاب.

بناءً على هذه العناصر، فإن ما يجري لا يمكن اعتباره تجاوزات فردية، بل نظام تعذيب ممنهج تمارسه دولة الاحتلال الإسرائيلي كسياسة رسمية تهدف إلى كسر الإنسان الفلسطيني جسديًا ونفسيًا.

 

سادسًا: مسؤولية المجتمع الدولي وآليات المساءلة

تؤكد "تضامن" أن ما يجري في السجون الإسرائيلية يُعدّ تعذيبًا ممنهجًا يرتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتطالب بـ:

  1. فتح تحقيق دولي مستقل بإشراف مجلس حقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة المعنية.
  2. إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC) وفق المادة 14 من نظام روما الأساسي.
  3. تفعيل الآليات الخاصة مثل المقرر الخاص المعني بالتعذيب والمقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
  4. فرض عقوبات فردية ودولية على المسؤولين الإسرائيليين الضالعين في إصدار أو تنفيذ أو تغطية هذه الجرائم.

 

إن استمرار سياسات التعذيب والإذلال والتجويع داخل السجون الإسرائيلية، تحت غطاء تشريعي وأمني رسمي، يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن إسرائيل تمارس التعذيب الممنهج كسياسة دولة، لا كحالات استثناء.
ويضع ذلك على عاتق المجتمع الدولي التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا بإنهاء الإفلات من العقاب ومحاسبة المسؤولين، تطبيقًا لمبادئ العدالة الدولية وسيادة القانون، وضمانًا لعدم تكرار هذه الجرائم