لم تكن شهادات التعذيب التي تخرج من السجون والمعسكرات الإسرائيلية حوادث منعزلة، بل حلقات متتابعة في منظومة ممتدة تحتمي بقواعد عمل وتشريعات وإجراءات ادّعت “الضرورة الأمنية” حتى حوّلت التعذيب من جريمة فردية إلى سياسة بلا مساءلة. فعلى مدى عقود، وثّقت مؤسسات محلية ودولية آلاف الانتهاكات، بينما ظلّت العدالة غائبة عن الجناة، والضحايا بين ألم التجربة وصمت المؤسسات التي يتعيّن عليها التحقيق والمحاسبة. وقد لخصت المفوضية السامية لحقوق الإنسان جوهر المشكلة بالقول إن تصاعد مزاعم التعذيب — بما في ذلك العنف الجنسي في مواقع احتجاز مثل سدي تيمان — ليس طارئًا، بل “قمة جبل الجليد” في نمط أوسع من الانتهاكات التي تستوجب منعًا ومساءلة فعّالة، لا ترقيعات إجرائية شكلي.
في المستوى الوقائعي، وثّقت منظمة العفو الدولية منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تصاعد الاعتقال التعسفي والاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي بحق فلسطينيين، مع إفادات متطابقة عن الضرب المبرّح، التعري القسري، الإذلال، وحرمان المحتجزين من الرعاية والاتصال القانوني والأسري. وتؤكد المنظمة أن السلطات الإسرائيلية فشلت في التحقيق في حالات التعذيب والوفيات أثناء الاحتجاز خلال تلك الفترة، ما يرسّخ انطباع الإفلات من العقاب بدل نفيه. وفي يوليو/تموز 2024، وثّقت العفو سلسلة حالات إضافية لاحتجاز فلسطينيين — بينهم أطباء وموظفون أمميون وصحفيون — صرّح جميع من قابلتهم المنظمة أنهم تعرّضوا للتعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية.
وتكشف لجنة مناهضة التعذيب وخبراء الأمم المتحدة في بيانات وملفات موازية أن المشكلة ليست فقط في وقوع التعذيب، بل في بنية التعتيم التي تمنع التحقيق النزيه والرقابة المستقلة. فخبراء أو.إتش.سي.آر شدّدوا في أغسطس/آب 2024 على أن تصاعد التعذيب في الحجز “كان ممكنًا منعه” لو وُجدت إرادة واضحة للتحقيق والمحاسبة، بينما جرى توسيع استخدام مواقع احتجاز عسكرية مغلقة (معسكرات) خارج نطاق الرقابة، بما يضاعف مخاطر التعذيب والاختفاء القسري.
على الجانب الإجرائي، يظهر سجل الشكاوى صورة أكثر وضوحًا للإفلات: فمنذ عام 2001 قُدّم — وفق “اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل” (PCATI) — أكثر من 1200 شكوى تعذيب ضد الشاباك خلال الاستجواب، لم يُقدَّم في أثرها أي متهم إلى المحاكمة؛ وقد فُتح تحقيق جنائي واحد فقط (قضية عام 2019) وما زال دون مآل قضائي رادع، وهو ما يصفه مراقبون بأنه حصانة عملية بحكم الواقع. هذه الخلاصة نقلتها وسائل دولية وملفات أممية دورية (UPR) اعتمدت بيانات PCATI نفسها.
لا يقف الأمر عند ضعف إنفاذ القانون، بل يمتد إلى هندسة قانونية تتيح الالتفاف. فمفهوم “الضرورة” وعبارات من قبيل “الضغط الجسدي” في سياق التحقيقات الأمنية شكّلت تاريخيًا مظلة مطاطية تُشرعن العنف تحت ذريعة درء الخطر، وتنعكس لاحقًا في قرارات إغلاق ملفات الشكاوى بدعوى “غياب الأدلة الكافية” أو “الظروف الأمنية”. والنتيجة، كما تُجمِلها تقارير العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أن النظام القضائي وفّر مظلّة حماية شبه تامة لأفراد الأجهزة الأمنية المتورّطين في التعذيب، مع تكريس القطيعة بين الشكوى والعدالة.
هذا النمط المؤسسي لا يقتصر أثره على حرمان الضحية من الإنصاف، بل يخلق بيئة إنتاج للتعذيب: فحين تغيب الرقابة، وتُحجب الزيارات، وتُدار مراكز احتجاز عسكرية مغلقة بعيدًا عن الصليب الأحمر، تتضاعف فرص الانتهاك وتتآكل الأدلة، ويُعاد تدوير العنف بوصفه لغة إدارية “مقبولة” في إدارة السجون. وقد حذّر خبراء أو.إتش.سي.آر من أن تحويل المعسكرات العسكرية إلى مواقع احتجاز “يُضاعف مخاطر التعذيب” ويستدعي رقابةً دولية فورية لا تقتصر على البيانات.
القانون الدولي واضح في هذا الباب. فـاتفاقية مناهضة التعذيب (1984) تُلزم الدولة بالتحقيق الفوري والنزيه في أي ادّعاء تعذيب واتخاذ الإجراءات اللازمة لملاحقة ومعاقبة المسؤولين عنه. كما يُصنّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) التعذيب المرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضمن الجرائم ضد الإنسانية (مادة 7)، ويعتبر في سياق النزاع المسلح جريمة حرب (مادة 8). أما اتفاقيات جنيف الرابعة (1949) فتُحظر التعذيب والمعاملة القاسية والحط من الكرامة، وتُعدّه ضمن الانتهاكات الجسيمة التي تستوجب ملاحقة جنائية، وهو ما يترتب عليه مبدأ عدم التقادم العملي في ملاحقة المسؤولين وفق قواعد المسؤولية الجنائية الدولية. إن خلاصات أو.إتش.سي.آر المتجددة عام 2024 تربط بين هذه القواعد وبين ضرورة إنهاء سياسية التعتيم والإفلات، لا الاكتفاء بتعديلات إجرائية شكلية.
ومع أن إدانة فردية واحدة لجندي — كما في حكم صدر عام 2025 لاعتداءات موثقة على محتجزين من غزة — قد تُقدَّم دليلاً على “عمل المؤسسة”، فإن هشاشة العقوبة وضآلة نطاقها مقارنة بحجم الانتهاكات الموثّقة تُبقي الصورة العامة على ما هي عليه: إفلاتٌ بنيوي من العقاب أكثر منه عدالة ناجزة، وهو ما نبّهت إليه منظمات حقوقية رأت في ذلك تكريسًا لثقافة عدم الردع لا اختراقًا جديًا للجدار.
إنّ الإفلات من العقاب ليس مجرّد انتهاكٍ لالتزامات دولية مُجرَّدة؛ إنه استمرار للجريمة نفسها. فحين يُترك الجلاد بلا مساءلة، يُعاد إنتاج الألم كسياسة، وتتحوّل الزنزانة من مكان للاحتجاز إلى مساحةٍ لإدارة العنف “المشروع” بعيون السلطة. ولكسر هذه الحلقة، لا بدّ من مسار مزدوج: فتح تحقيقات مستقلة تتوافق مع معايير اتفاقية مناهضة التعذيب، وتمكين آليات دولية — بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية — من الوصول إلى ملفات التعذيب والاختفاء القسري والاحتجاز في مواقع عسكرية مغلقة، وضمان وصول الصليب الأحمر والجهات الحقوقية إلى جميع أماكن الاحتجاز دون استثناء. عندها فقط يمكن أن تتراجع “سياسة الألم” لصالح سياسة القانون.
✳️ تضامن | نوفمبر 202