"التعذيب وسوء المعاملة بحق الأسرى الفلسطينيين بعد 7 أكتوبر 2023 – شهادات المفرج عنهم من غزة تكشف الجريمة الممنهجة"
تقديم
يشهد ملفّ الأسرى الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تصعيدًا نوعيًّا في حجم الانتهاكات داخل السجون الإسرائيلية ومعسكرات الاحتجاز الميدانية. تحوّلت سياسات الاعتقال إلى نهجٍ انتقاميٍّ ممنهج يدمج التعذيب الجسدي والنفسي، والتجويع، والإذلال، والحرمان من الحقوق الأساسية، بخاصة ضدّ الأسرى القادمين من قطاع غزة.
وتُظهر الشهادات الميدانية للمفرج عنهم أنّ هذه الممارسات ليست أفعالًا فردية أو "تجاوزات معزولة"، بل جزء من سياسة مؤسسية تُنفَّذ ضمن منظومة متكاملة تضمّ الجيش ومصلحة السجون و"الشاباك"، بهدف إذلال الأسرى وكسر إرادتهم والنيل من كرامتهم الإنسانية. وتشمل أنماط الانتهاكات الضرب المبرّح، والتعرية القسرية، والحرمان من النوم والطعام والعلاج، والتهديد بالقتل أو الاعتداء الجنسي، واستخدام الكلاب العسكرية وأدوات الصعق الكهربائي.
تُظهر الأدلة الطبية والصور وتوثيقات منظمات حقوقية محلية ودولية نمطًا واسع النطاق ومنهجيًا من التعذيب وسوء المعاملة يُصنَّف قانونيًا كجريمة حرب وجريمة ضدّ الإنسانية وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقية مناهضة التعذيب ونظام روما الأساسي. ويهدف هذا التقرير إلى كشف ملامح الجريمة الممنهجة عبر شهادات المفرج عنهم من غزة وتحليلها ضمن الإطار القانوني الدولي.
أولًا: السياق الميداني بعد 7 أكتوبر 2023
تُظهر إفادات المفرج عنهم أنّ أساليب التعذيب في هذه المعسكرات شملت:
1. التعذيب الجسدي المباشر
وهذا انتهاك لاتفاقية مناهضة التعذيب (م1) واتفاقية جنيف الرابعة (م32).
2. التعذيب النفسي والحرمان الحسي
محظور بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب (م16) وجنيف الرابعة (م27).
3. التعذيب الجنسي والاعتداءات ذات الطبيعة الجنسية
يُعدّ الاعتداء الجنسي من أخطر أشكال التعذيب الموثقة بعد السابع من أكتوبر، حيث تحوّل إلى وسيلة إذلال جماعي تهدف إلى تحطيم الكرامة الإنسانية.
وقد شملت الممارسات:
4. الإهمال الطبي المتعمّد
انتهاك مبادئ الأمم المتحدة للمحتجزين (م/24) وجنيف الرابعة (م91) والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (م10).
5. التعذيب الجماعي والإذلال المنهجي
يهدف هذا النمط إلى كسر الإرادة والكرامة الإنسانية للأسير. وهو مخالف للمادة المشتركة 3 من اتفاقيات جنيف والعهد الدولي (م7).
ثانيًا: شهادات حية للمفرج عنهم من قطاع غزة
1. فاطمة طمبورة، 33 عامًا – من حي الشيخ رضوان بغزة
تاريخ الاعتقال: نوفمبر 2023 – مكان الاحتجاز: سجن الدامون
الانتهاكات الموثقة: تفتيش عارٍ، تحرّش جسدي، تهديد بالاغتصاب، حرمان من النوم.
"جرّدوني من حجابي وملابسي بالقوة أمام المجندات، وكنّ يضحكن ويسخرن مني. بقيت أسبوعًا كاملًا دون نوم؛ كانوا يفتحون الباب كل ساعة ويصرخون في وجهي. قالوا لي: هذا عقاب لأنك من غزة."
2. سامي خليلي، 41 عامًا – من نابلس، اعتُقل في غزة
تاريخ الاعتقال: أكتوبر 2023 – أماكن الاحتجاز : معسكر ركافت، سجن النقب
الانتهاكات الموثقة: ضرب مبرّح، تعليق، حرمان من العلاج، إذلال جماعي.
“كانوا يضربوننا بالعصي الحديدية كل صباح كنوع من الإيقاظ. رأيتُ رجالًا كبارًا ينهارون. نزفتُ من رأسي ولم يُسمح لي بمسحة ماء. قال لي الجندي: موتكم هنا أهون من رؤيتكم أحياء.”
3. عامل من غزة (رمز: أ.س، 28 عامًا)
تاريخ الاعتقال: أكتوبر 2023 – مكان الاحتجاز: معسكر سديه تيمان
الانتهاكات الموثقة: تجويع، تعرية قسرية، ضرب جماعي.
"أجلسونا عراة تحت المطر. كانوا يرشّون الماء البارد علينا ويضحكون. قطعة خبز واحدة في اليوم، وأصوات صراخ لا تتوقف من الخيام المجاورة".
4. م.ع، 35 عامًا، من النصيرات (غزة)
تاريخ الاعتقال : ديسمبر 2023 – مكان الاحتجاز: معسكر ركافت
الانتهاكات الموثقة : صعق كهربائي، تعليق بالأيدي، حرمان من الماء، تهديد بالإعدام.
""قيّدوني وعلّقوني من السقف بسلاسل حديدية، ثم صعقوني بالكهرباء في الساقين واليدين، وقال الضابط: لن يسمع العالم صوتك."
5. محمد عرب ، 34 عامًا، من جباليا (غزة)
تاريخ الاعتقال: ديسمبر 2023 - أماكن الاحتجاز: معسكر سديه تيمان، عوفر
الانتهاكات الموثقة: حرمان من النظافة، إذلال متواصل، تهديد واغتصاب داخل "المسلخ".
"الأسير في معتقل سديه تيمان يُسمح له بقضاء حاجته مرة واحدة في اليوم فقط، أما الاستحمام فمرة واحدة أسبوعيًا ولمدة دقيقة واحدة فقط.
ومن أساليب العقاب الوقوف على رجل واحدة أمام السياج من 8 إلى 10 ساعات، أو الضرب الوحشي، أو الإهانات المتواصلة. وإذا تراكمت عليك المخالفات، قد تُسحب إلى ‘المسلخ’ وهناك يُغتصب الأسير."
6. المحامي خالد محاجنة
يؤكد المحامي خالد محاجنة، الذي زار عددًا من الأسرى وأشرف على ملفات قانونية متعددة، أن ما يجري في السجون الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر يرقى إلى جريمة تعذيب ممنهجة تشمل الاغتصاب الطبي والعنف الجنسي والإهمال الطبي القاتل.
الإطار القانوني للتعذيب في القانون الدولي
يُعرّف التعذيب بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984 بأنه:
"أيّ عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديًا كان أم نفسيًا، يلحق عمدًا بشخص ما بقصد الحصول منه أو من شخص ثالث على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على فعل ارتكبه أو يُشتبه في أنه ارتكبه، أو تخويفه أو إرغامه هو أو غيره، عندما يتم هذا الألم أو العذاب بتحريض أو بموافقة أو بقبول موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية."[1]
وتُلزم المادة الثانية من الاتفاقية الدول الأطراف باتخاذ جميع الإجراءات التشريعية والإدارية لمنع التعذيب، دون أي استثناء حتى في حالات الطوارئ أو النزاعات المسلحة.[2]
كما تحظر اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 “إخضاع أي شخص محمي للتعذيب البدني أو المعنوي، أو لأي شكل من أشكال المعاملة القاسية أو المهينة”، وتُصنّف ذلك ضمن الانتهاكات الجسيمة التي تُعدّ جرائم حرب تستوجب الملاحقة الدولية.[3]
أما نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 فيعتبر التعذيب ضمن الأفعال التي تشكّل جريمة ضد الإنسانية عندما يُمارس على نحو واسع النطاق أو منهجي ضد أي مجموعة من السكان المدنيين.[4]
وبموجب هذه المعايير، فإن ما رصدته تضامن من شهادات وأدلة بعد السابع من أكتوبر يرقى بوضوح إلى مستوى جريمة ممنهجة ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأسرى الفلسطينيين، خاصة القادمين من قطاع غزة، وهو ما يُرتّب مسؤولية جنائية دولية مباشرة على القادة السياسيين والعسكريين الذين سمحوا بتلك الممارسات أو تغاضوا عنها.
ثالثاً: التحليل القانوني والتوصيات
أولًا: التحليل القانوني
تظهر الأدلة الموثقة والشهادات الحية التي جمعتها المؤسسات الحقوقية والإعلامية، المحلية والدولية، ومن بينها المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين (تضامن)، أنّ ممارسات التعذيب ضد الأسرى الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر 2023 ليست مجرد تجاوزات فردية، بل سياسة ممنهجة ومؤسسية تُمارس تُمارس بإشراف مباشر من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ضمن منظومة متكاملة تشمل الجيش، وجهاز الأمن العام "الشاباك"، ومصلحة السجون، وبتغطية سياسية وتشريعية من مستويات عليا في الحكومة الإسرائيلية.
1. الطابع الممنهج للتعذيب
انتظام الأنماط عبر مواقع متعددة (سديه تيمان، ركافت، النقب، الدامون) وتكرار عبارات ذات طابع تمييزي ("هذا عقاب لأنك من غزة") يدلّ على سياسة موحّدة لا تجاوزات فردية. يندرج ذلك ضمن جريمة ضد الإنسانية (نظام روما: م7(1)(ف/ج)) وانتهاك جسيم لاتفاقية جنيف الرابعة (م147).
2. مسؤولية القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية
يتحمّل القادة السياسيون والعسكريون المسؤولية الجنائية عندما يعلمون بالجرائم أو كان ينبغي أن يعلموا ولم يمنعوها أو يعاقبوا مرتكبيها. التصريحات الرسمية من وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ومسؤولين في مصلحة السجون الإسرائيلي التي دعت إلى "تشديد المعاملة" وحرمان الأسرى من حقوقهم تمثّل تحريضًا صريحًا وموافقة سياسية على التعذيب، فضلًا عن غياب تحقيقات فعّالة ومنع وصول رقابة إنسانية إلى معسكرات ميدانية ، ما يرقى إلى مسؤولية قيادية مشتركة بموجب القانون الدولي.[5]
كذلك، فإنّ غياب أي تحقيق فعلي داخل المؤسسات الإسرائيلية في شكاوى التعذيب، ورفضها المستمرّ السماح للمنظمات الدولية (كاللجنة الدولية للصليب الأحمر) بزيارة بعض معسكرات الاعتقال الميدانية، يكرّس سياسة الإفلات من العقاب ويؤكد الطابع الرسمي للجريمة.[6]
3. التمييز الجغرافي واستهداف أسرى قطاع غزة
تُظهر البيانات الميدانية التي وثّقتها المؤسسات الحقوقية والإعلامية، المحلية والدولية، ومن ضمنها المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين (تضامن)، أنّ الأسرى القادمين من قطاع غزة كانوا الأكثر عرضة للتعذيب والإذلال مقارنة ببقية الأسرى الفلسطينيين.
فالتقارير الحقوقية والإفادات الإعلامية الصادرة عن منظمات فلسطينية وإسرائيلية ودولية متقاطعة، تُجمع على أنّ المعتقلين من غزة واجهوا نمطًا مكررًا من التعذيب والعقوبات الجماعية داخل معسكرات الاحتجاز مثل سديه تيمان وركافت وسجون النقب والدامون.
ويُظهر هذا التوافق في الشهادات أنّ سياسة التعذيب الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر اكتسبت طابعًا واسع النطاق ومنهجيًا، بما يشمل المدنيين العُزّل، والجرحى، والنساء، والعمال الذين اعتُقلوا دون توجيه تهم محددة.
إن هذا التمييز في المعاملة على أساس الأصل الجغرافي يُعدّ انتهاكًا مباشرًا للمادة (2) من اتفاقية مناهضة التعذيب التي تحظر أي شكل من أشكال التمييز في تطبيق القانون أو العقوبة.[7]
2. الحرمان الطبي كجريمة مركبة
إن حرمان الأسرى من الرعاية الطبية الأساسية — خاصة الجرحى والمصابين من غزة — لا يُعدّ إهمالًا عارضًا، بل أداة تعذيب ممنهجة هدفها ترك الألم يتفاقم كوسيلة للعقاب.
تُظهر تقارير طبية محلية أنّ عددًا من المفرج عنهم خرجوا من السجون بإصابات مزمنة، واحتاج بعضهم إلى عمليات بتر نتيجة الإهمال.
ويُعدّ هذا النمط خرقًا مزدوجًا لكلٍّ من المادة (91) من اتفاقية جنيف الرابعة والمادة (10) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تكفل "احترام الكرامة المتأصلة في الإنسان".
ثانيًا: التوصيات